فجر القصة المصرية، كتاب صغير الحجم، قليل الصفحات، كان هو البداية الحقيقية لدراسات تالية حول بدايات القصة والرواية المصرية. ثمة محاولات سبقت كتاب حقي، توصل بعضها إلى نتائج مقاربة لما توصل إليه صاحب القنديل.. لكن فجر القصة المصرية ظل هو المصدر – لا أقول المرجع – الأول لكل الكتب التالية، ما بين دراسات في النقد، وبحوث أكاديمية.
ظني أن هذا الكتاب للناقد والروائي والقاص الراحل عباس خضر، امتداد – على نحو ما – لكتاب حقي. الامتداد نفسه الذي مثلته محاولات صلاح ذهني وشوكت التوني وسيد النساج ومراد مبروك وعلاء وحيد وغيرهم.
المساحة الزمنية لمادة الكتاب ما بين أوائل القرن العشرين ومطلع الثلاثينيات من القرن نفسه.. لكن البداية الفعلية التي حرص الكاتب أن يمهد بها لفصول كتابه، هي اتصال القصة العربية الحديثة بفن القصة في التراث العربى، ثم اتصالها بفن القصة في الغرب، سواء باللغات الأصلية، أم بالترجمة من تلك اللغات إلى العربية. وتناول عباس خضر المحاولات الأولى في فن القصة، وكيف أفضت – فى مجموعها – إلى القصة القصيرة المتكاملة – والتعبير للكاتب – وقدم أهم روادها، ثم قدم الكاتب بيانًا بالمجموعات القصصية التي ظهرت قبل عام 1930، وهو العام الذي اختاره الكاتب نهاية لدراسته.
الكتاب – كما يشير عباس خضر فى تقديمه – ثمرة منحة تفرغ أتاحت له ” جوًا من الاطمئنان، بعيدًا عن العوائق المادية والاجتماعية ” .
والحق أن هذه الثمرة الناضجة تبين عن المعنى الذي قام لأجله مشروع التفرغ، فلا تتحول نتائج المنحة – كما حدث في العقود الأخيرة – إلى نقيض هدفها. تحول المشروع – في أحيان كثيرة – إلى تكية، أو إلى مساعدة مادية، مقتطعة من أموال دافعي الضرائب.
بداية، فإن الكاتب يعني بتأكيد وجود فن القصة في التراث العربي، وأنه كان للعرب في مختلف العصور فنونهم القصصية النابعة من بينهم، والمصورة لحياتهم وعقائدهم ومغامراتهم وبطولاتهم، وكانت هذه الفنون متقدمة في أزمانها، وإن اختلفت في النوع عن تراث الغرب باختلاف ظروف البيئة وأحوال المجتمع. ثمة – على سبيل المثال – الملاحم العربية، سير أبطال العرب الحقيقيين والخياليين، ومغامراتهم في الحرب والحب، وتعنى باستثارة الهمم العربية، مثل سيرة عنترة والهلالية وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وحمزة البهلوان إلخ. كما يشير الكاتب إلى القصص الخرافي الذي أفلت منه القليل، ولو أنه – كما يقول – ظل مكتملًا، لكان لنا منه فن قصصي عظيم مثل أساطير اليونان. ويرفض عباس خضر – فى هذا السياق – ما زعمه مستشرقون بأن بيئة العرب الصحراوية لم تمنحهم المخيلة الخالقة المبتكرة، التي تتوافر لمبدعين فى الغرب، يؤيد رأيه بما ذهب إليه مثقفون عرب وأجانب، مثل الأستاذ جب وفخري أبو السعود وغنيمى هلال وفاروق خورشيد.
أما اتصال الإبداع القصصي والروائى بمعطيات الغرب، فإنه يجد بدايته – في العصر الحديث – في قدوم المطبعة مع حملة بونابرت، والدور الإيجابي الذي أسهمت به في استبدال الطباعة بنسخ كثيرة، بالمخطوطات والمستنسخات ذات النسخ القليلة. وكما يقول الكاتب، فقد دخلت المطبعة إلى مصر ” فبعثت التراث، ونقلت الوافد، فاتسع مجال الثقافة، وزاد بإنشاء الصحف وانتشارها، وأرسلت البعوث إلى أوروبا، فاتصل أعضاؤها هناك بالمؤثرات الجديدة، وعادوا فألفوا عنها، وبثوا الوعي بها، وأخذوا في الترجمة من لغاتها إلى العربية “. وكانت الصحف تنشر القصص على أنها مادة للتسلية والفكاهة، أو أنها عبرة لذوي الألباب. ومع أن المنفلوطي لم يكن يجيد لغة أجنبية، فإنه قد اكتسب شهرة هائلة بالأعمال التي ترجمها له آخرون، ثم تولى تمصيرها، ثم ظهر جيل من المترجمين الذين يجيدون اللغتين المترجم منها، والمترجم إليها، ومنهم المازنى ومحمد السباعى وعباس حافظ وعوض محمد وزكى نجيب محمود وفخرى أبو السعود وعبد الرحمن صدقى ومحمد عبد الله عنان والدريني خشبة، وغيرهم.
واللافت أن الكاتب أرجأ تسليط الضوء على المدرسة الحديثة في توقيت ظهورها، وهو التوقيت نفسه الذي ظهرت فيه المحاولات الكثيرة لأدباء مهمين، وإن لم يسبقوا – تاريخيًا – أدباء المدرسة الحديثة. وعلى سبيل المثال، فقد سبقت صحيفة السفور ( 1917 ) التي نشرت كتابات المدرسة الحديثة، مجلة ” فتاة الشرق” ( 1919) التي نشرت كتابات لبيبة هاشم ومنصور فهمي. مع ذلك، فإن الكاتب ينسب قصص لبيبة هاشم إلى المحاولات الأولى، بينما تأتي قصص مبدعى المدرسة الحديثة إلى مرحلة تالية.
والأمثلة كثيرة، وتشمل أعمالاً تلت – فى ترتيبها الزمنى – أعمال المدرسة الحديثة.
***
ثمة العديد من الآراء التى تجد في رواية ” زينب “ لهيكل بداية حقيقية للرواية المصرية الناضجة، والتعبير ليحيى حقي الذي لم يكن، فى الحقيقة، أول من تبنى هذا الرأي. ما يدعو إلى التساؤل، عن ذلك الإهمال الغريب لرواية محمود طاهر حقي ” عذراء دنشواى “. لقد صدرت قبل “زينب” بأربعة أعوام، وتفوقها في تناولها للواقع المصرى، وفي فنيتها المتماسكة، مقابلًا لرومانسية زينب، وسذاجة أحداثها، وأفكار شخصياتها.
أشرت إلى ذلك المعنى في كتابي ” مصر في قصص كتابها المعاصرين “، ورد يحيى حقي على سؤال لعبد العال الحمامصي، بأن عذراء دنشواي هي الرواية الأولى، تاريخيًا وفنيًا. وقد جاء تقديمه لزينب هيكل، لأن محمود طاهر حقي مؤلف عذراء دنشواى هو عم يحيى حقي، فخشى إسهامًا بالانتصار لصلة القرابة، وهو دفاع غريب كما ترى، لكن ذلك ما ذكره حقي في حواره مع الحمامصي.
وفي فصل مستقل، يعرض الكاتب للمحاولات الأولى في القصة والرواية، من خلال أعمال عبد الله النديم ولبيبة هاشم ومنصور فهمي وخليل مطران ومحمد المويلحي وحافظ إبراهيم والمنفلوطى، ويتوصل إلى نتيجتين، أولاهما: خلق وعي قصصي، سواء في الجمهور القارئ، أو الأدباء المتطلعين إلى الكتابة القصصية، والتهيئة لفن القصة كي يأخذ موضعه بين فنون الأدب العربي الحديث. أما النتيجة الثانية فهي انشغال كتاب القصة بالتعبير عن المجتمع واهتماماته، باستثناء القليل من قصص التسلية، وهي التسمية التي ظلت عنواناً لما كان ينشر من إبداعات قصصية.
وأرجع الكاتب تأثر كتاب القصة في بداياتها إلى موباسان، ورأى أن الوحدات الموباسانية: البداية، الوسط، لحظة التنوير، وهي الوحدات التي تناولها رشاد رشدى في كتابه ” فن القصة القصيرة”، قد تفككت في إبداعات الأدباء التي تأثرت بالقصة التشيخوفية ذات النهاية المفتوحة، لتستقيم في صور أكثر فنية، وتحاول التجريب كما في إبداعات الأجيال التالية.
في فصل مستقل، يعرض الكاتب للقصة القصيرة الفنية، المتكاملة، منذ قصة محمد تيمور” في القطار”، فالإبداعات القصصية التالية إلى 1930، حيث تتوقف الفترة التي تناولها الكتاب، ومهد لذلك بالعديد من التعريفات لماهية القصة القصيرة، وعدد الفوارق بين فن القصة في الغرب وفن القصة في بلادنا، وإن ذهب إلى أن كتاب القصة القصيرة آنذاك قد تأثروا بالقصص الأوروبي تأثرًا مباشرًا عن طريق اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ويقف جي دي موباسان في المقدمة كنموذج يحاكي في خلق القصة القصيرة العربية، يليه أنطون تشيخوف ، وأغرم بعضهم بتحليل زولا وبول بورجيه، مثل الأخوين عيسى وشحاتة عبيد ومحمد تيمور، كما أغرم بعضهم بمنهج شارل ديكنز في المبالغات الكاريكاتورية وصور بوكاشيو في فضح العلاقات الجنسية، والتسلل وراء مظاهر الورع الكافية، مثل محمود طاهر لاشين ( ص113)
وينسب الكاتب ريادة القصة القصيرة المصرية إلى محمد تيمور، وهو ما ذهب إليه يحيى حقي فى “فجر القصة المصرية “، بل إن الرأي نفسه ذهبت إليه دراسات تالية كثيرة، فصارت الريادة المطلقة لقصة محمود تيمور ” في القطار ” بينما صارت الريادة المطلقة في الرواية العربية لزينب هيكل.
اللافت – كما يقول يحيى حقي في ” فجر القصة المصرية ” – أن عيسى عبيد وشحاتة عبيد لم ينضما إلى المدرسة الحديثة، ولا إلى أية جماعة أدبية أو فنية. وعلى الرغم من أن حقى عرف الرجلين معرفة شخصية، فإنه اكتفى باستدعاء ترجمتهما من الذاكرة. أما عباس خضر، فقد حرص أن يتحرى ظروف الرجلين، لكنه لم يلتق بهما، وعرف أن عيسى مات فى 1923، أما شحاتة فقد مات فى 1961.
وأذكر أني تعرفت شخصيًا فى إبداعات عيسى عبيد وشحاتة عبيد إلى كتابات لا تقل في مستواها عن كتابات المدرسة الحديثة، بل إنها تنتسب إلى رحلة فنية متقدمة، قياسًا إلى معطيات الفترة. وقد نقل عباس خضر عن الكاتب الدمياطى المولد، السكندري الإقامة نقولا يوسف قوله إنه كان صديقًا للشقيقين عبيد، وإن عيسى توفي في زهرة العمر سنة 1923، إثر مرض لم يمهله طويلًا، أما شحاتة فقد توقف عن الكتابة بعد وفاة شقيقه، واعتزل الحياة الأدبية.
وفي تقدير عباس خضر أنه إذا كان محمد تيمور قد سبق عيسى عبيد في كتابة القصة القصيرة الفنية، فإن عيسى عبيد قد فاقه بالتعمق والتحليل ورسم الشخصيات من الداخل، حيث المشاعر والأفكار تضطرب في الأعماق تجاه المواقف المختلفة، بالإضافة إلى أن تيمور أكثر فهمًا لطبيعة القصة القصيرة من عيسى، فقصص الأول تمتاز بالتركيز وتناول اللحظة أو الموقف بما يتلاءم مع هذا الفن من الأدب. أما الثانى فمعظم قصصه تشبه البناء الروائي، وكثيرًا ما يستطرد، أو يبدأ، بمقدمة طويلة قبل أن يبلغ الموقف المقصود، ويبدو أن تيمور اكتسب ذلك من تأمله في قصص موباسان، كما يبدو عيسى متأثراً بتحليلات إميل زولا.
ويتوقف الكاتب عند الخصائص العامة لشحاتة عبيد في أنه يماثل أخاه. أما محمود تيمور فإن أجيالًا متوالية من الأدباء تدين له بالفضل، سواء في الجو المصري ذي الآفاق الإنسانية الذى تتحرك فيه إبداعاته، أو في الأستاذية الحانية التي احتضن بها مبدعين كثر. أتاحت لي الظروف أن ألامسها من خلال علاقات الأستاذ والتلاميذ التي كانت بينه وبين نجيب محفوظ وعبد الحليم عبد الله وأمين يوسف غراب وعشرات المبدعين، إلى جيل الستينيات.
أفرد الكاتب مساحة من كتابه لمناقشة التدخلات التي بدّل بها لغته، وعناوين الكثير من قصصه. وعلى الرغم من محاولة الكاتب – والتعبير له – أن يسد شيئًا من النقص في الكتابة عن محمود تيمور الذي أخلص لفنه طول حياته، وأثرى أدبنا القصصي بما لم يفعله كاتب آخر، فإنه قد فاجأنا – فيما بعد – باتهام لمحمود تيمور أنه ترك قصصه – البديعة بالفعل – للباحث اللغوي الراحل شوقى أمين، يجرى فيها بقلمه ما شاء من تعديلات وتصويبات، مدفوعاً بعضويته فى مجمع اللغة العربية، بما أساء إلى طزاجة فنه وصدقه وتميزه.
وفي تقديري أن محمود طاهر لاشين هو أجدر أدباء المدرسة الحديثة بلقب الناظر، تزكيه عوامل كثيرة، منها الممارسة الحياتية المشاركة والمتأملة، والموهبة، واعتبار الفن قضية حياة.
ينهى عباس خضر كتابه بعرض قصص قصيرة متفرقة – والتسمية من عنده – لحسين فوزي وأحمد خيري سعيد ويحيى حقي وإبراهيم المصري وحسن محمود وسعيد عبده، إلى جانب قائمة بالمجموعات التي ظهرت قبل سنة 1930.
ولسنا فى حاجة إلى التأكيد أن المجموعات التي أوردها الكاتب إنما هي نماذج مما صدر من مجموعات قصصية، وليس كل المجموعات، وهو ما لا يقلل من أهمية هذا الكتاب، الذي يعد مصدرًا مهمًا لدراسات القصة القصيرة في مكتبتنا العربية.