يحيلنا العرض المسرحي ” جوّه الصندوق” إلى مايمكن تسميته بـ” مسرح الجريدة اليومية”، فبنية النص المفتوحة، والموضوعات الاجتماعية التي يتناولها، تسمح بإضافة الجديد اليومي، بخاصة أن المسرحية تتعرض لمشكلات وقضايا اجتماعية تبرزها وسائل الإعلام بشكل دائم، مايجعلها مادة ثرية قابلة للتناول في عمل مسرحي، ومحرضة على تفاعل الجمهور معها.
العرض كتابة وإخراج إسلام إمام، إنتاج صندوق التنمية الثقافية تحت إشراف مدير الصندوق د. هاني أبو الحسن ،ويقدم على مسرح قصر الأمير طاز بالقاهرة الفاطمية، وهو ليس مسرحًا بالمعنى المفهوم للمسرح التقليدي، هو عبارة عن شكل دائري مرتفع، لايسمح بوجود ديكورات ضخمة، فقط بعض الموتيفات البسيطة، ويتكفل المكان الأثري الذي يضم المسرح، بالعمل كخلفية، أو كبانوراما عامة للعرض، وعلى المخرج أن يصيغ عرضه وفقًا لطبيعة المكان ومتطلباته.
عنوان العرض يمكن تفسيره على نحوين: الأول يتعلق بالصندوق نفسه الذي أنتجه” صندوق التنمية الثقافية”، وهو تفسير ربما يبدو بعيدا، وإذا صح يكون كوميديًا، فماذا عن العرض الثاني الذي سينتجه الصندوق بعد ذلك؟ هل سيطلق عليه” جوه الصندوق 2″؟ أما التفسير الآخر فيتعلق بصندوق الحياة، الذي يستخرج منه العرض حكاياته، والأخير ربما يكون الأقرب إلى الصحة، أو المواءمة.
فكرة بسيطة
الفكرة بسيطة ومتداولة. شاب وفتاة على قمة جبل المقطم، كلاهما يريد الانتحار، ويتصارعان على أولوية كل منهما في إلقاء نفسه من فوق قمة الجبل. في النهاية ، وحسمًا للصراع، يتفقان على الانتحار سويًا، ويمسك كل منهما بيد الآخر، لكنهما يكتشفان انضمام عديد من الرجال والسيدات إليهما، كل منهم جاء لينتحر، وهنا تتوقف لعبة الانتحار، ويبدأ كل منهم في شرح الأسباب التي دفعته إلى ذلك.
هكذا ندخل إلى عدة حكايات تسردها الشخصيات أمامنا، حكايات عن الهجرة غير الشرعية، والتحولات التي طرأت على بعض المصريين نتيجة هذه الهجرة، وأخري عن الخيانة العاطفية، وثالثة عن التنمر، ورابعة عن الزواج المبكر، وخامسة عن الإدمان، وسادسة عن عقوق الأبناء، وسابعة عن هوس السوشيال ميديا، وثامنة عن أبطال اللعبات الرياضية الفردية الذين يحققون بطولات عالمية لكن الدولة لاتهتم بهم عند مرضهم أو عجزهم عن العمل ، على عكس لاعبي كرة القدم.
أغلب الموضوعات التي تناولها العرض، متداول ، ومعروف، ونقرأ عنه في وسائل الإعلام، وهناك تفاوت واضح ، وربما مقصود، بين كل سبب للانتحار وآخر، فلا يمكن مثلًا أن يتساوى سبب تفكير أب في الانتحار لأنه دفع ابنه إلى الهجرة غير الشرعية حتى يتحقق له الثراء، ماأدى إلى غرق الابن في البحر،مع سبب تفكيرشاب في الانتحار لأنه أدمن التدخين وليست لديه القدرة على المقاومة، لكنها مجموعة أسباب جمعها المخرج معًا بغرض النقاش حول فكرة الانتحار ذاتها، فبعد نهاية الحكايات يدخل الممثلون مع المشاهدين في حوارات حول رأيهم في فكرة الانتحار ، أي أن الرغبة في النهاية هي خلق هذا الحوار المجتمعي حول سلوك ما، فضلاً عن أن هذه الحكايات نفسها تعري المجتمع وتكشف سوءاته، وتمثل ناقوس إنذار لأفراده.
بساطة الحكايات، وطريقة تقديمها، ناسبتا نوعية الجمهور المستهدف، هو جمهور شعبي من أبناء المنطقة التي يقع بها القصر، والعرض يُقدم بالمجان، وهو مايتيح الفرصة لوجود جمهور كبير ومتنوع، والممثلون أنفسهم، خلال حكاياتهم، يتعمدون ذكر بعض المعالم التي تقع في الحي، سعيًا إلى خلق مساحة من الدفء بينهم وبين جمهورهم.
توليد الحكايات
اعتمد المخرج على توليد كل حكاية من الأخرى، هو لم يفصل بين الحكايات، بل جعل، وبحيل فنية، نهاية كل حكاية تمهيدًا للدخول في حكاية جديدة، جامعًا بين الكوميديا، والمليودراما التي لم يستغرق فيها كثيرًا، لكن حضورها ، في هذا السياق، كان موفقًا وضروريًا، ومطعمًا ذلك كله ببعض الأغاني المتداولة، كسرًا للملل، ورغبة في جعل الجمهور منتبهًا بشكل دائم ، وعبر ثمانين دقيقة هي مدة العرض.
العرض لايُقدم يوميًا بنفس الصيغة، لدينا اثنا عشر ممثلًا وممثلة، لايقدم كل منهم حكايته، وإلا استغرق العرض ساعات عدة، ففي كل يوم يتم استبدال حكايات بأخرى، ويتم كذلك استغلال الأحداث اليومية لتطعيم العرض بحكاية جديدة تستحق المناقشة. حكاية بطل ألعاب القوي ، على سبيل المثال، حكاية واقعية تناولتها وسائل الإعلام عن لاعب حقق العديد من الانتصارات، وحصل على ميداليات فضية وذهبية، ثم وجد نفسه وحيدًا بلاعمل، وفي حاجة إلى العلاج، والإنفاق على أسرته، مااضطره إلى بيع هذه الميداليات لتجار الخردة، حتى يواصل حياته. التقط المخرج هذه الحكاية وجعلها ضمن مادته التي اعتمد عليها في صياغة عرضه.
لدينا في العرض، مجموعة من الممثلين الشباب : إسراء عاطف، وعالية القصبي ، وباسم سليمان، ومصطفي سعيد، وعبده بكري، وإسلام رجب، و دانا وائل، ورضوى و هنادي محمد، و حسن علي، وأحمد عبادي، و حامد الزهار. هؤلاء جميعًا، لعب كل منهم أكثر من دور، فلا بطولة مطلقة في العرض، ولامساحات أكبرينعم بها ممثل دون غيره. فكرة الجماعية تتحقق أكثر هنا، لكنها تطلبت استجابات سريعة في التحول من شخصية إلى أخرى، سواء عبر طريقة الأداء، أو عبر تغيير الملابس وبعض الاكسسوارات، وهو أمر يستلزم تدريبًا طويلًا حتى يصل الفريق إلى هذا القدر من التناغم، والإيقاع المنضبط.
لاديكورات هنا، مجرد بعض الموتيفات البسيطة التي ترمز إلى أننا في منطقة جبلية، ويتم استخدام هذه الموتيفات كمقاعد للجلوس، أو الإيحاء بأننا داخل سيارة، وهكذا.
حكي وتشخيص
ولأن الحكايات كثيرة ومتنوعة، أدرك المخرج أنه أمر صعب وممل أن يستمر العرض هكذا، مجرد حكي، فلجأ إلى التشخيص إلى جانب الحكي، فالممثل لايقدم حكايته بمفرده، هو يمهد لها بداية، ثم بعدها يتم تشخيصها من قبل أبطالها.كما حاول إضفاء الطابع الكوميدي على بعضها، حتى تلك الحكايات التي تنتهي بفاجعة، سعى إلى تقديمها في قالب كوميدي، ومنها على سبيل المثال حكاية الرجل الصعيدي الذي أجبر ابنه على الهجرة غير الشرعية، حيث يتناول ، بتهكم شديد، حال بعض آباء الريف الذين هاجر أبناؤهم إلى أوروبا، والمفردات الجديدة التي تجري على ألسنة هؤلاء الآباء، بعد أن نعموا بالثراء نتيجة هجرة الأبناء، وهي مفردات تثير السخرية المرة من هذه التحولات التي مسخت الشخصية المصرية، بخاصة المتطلعة إلى الثراء، أو التي هبطت عليها الثروة فجأة، وكانت تحيا في شظف من العيش.هذه الفئة التي ينطبق عليها المثل الشعبي” كان في جرة وخرج لبره”.
وإذا كان المخرج قد استفاد من البنية المفتوحة لتجديد عرضه دائمًا، فربما يكون العرض أكثر انضباطًا لو أنه كثف بعض الحكايات، أو اكتفى بعدد أقل منها، فقطرة دم واحدة، كما يقولون، تكفي لمعرفة الفصيلة.