محمد جبريل
إذا حاولنا تعريف الرومانسية فإننا نتذكر القول بأن من يحاول تعريف الرومانسية إنما يدخل فى مهمة خطيرة راح ضحيتها كثيرون. ثمة تعريفات كثيرة ، تعنى – فى مجموعها – الفردية الفوضوية، والتخيل الفوار، والإقبال على الطبيعة، والاندفاع العاطفى، والثورة على المألوف، إلخ.
يعتبر سلامة موسى النزعة الرومانسية “الخيالية” فى أدب العرب، أصل القصة الحديثة. انتشرت قصص الحب والأشعار الغزلية بين عرب الأندلس، ثم انتقلت إلى جنوب فرنسا، وأحدثت الحركة الرومانسية “الخيالية” التى تسم قسماً كبيراً من الأدب الأوروبى الحديث ( سلامة موسى: حرية الفكر وأبطالها فى التاريخ – 88 )
إذا تجاوزنا التعريفات الأكاديمية للرومانسية، فإنها تتحدد فى إهمال الماديات والصور الحسية ، مقابلاً لتغليب النظرة الروحية والوجدانية . المثل كمال عبد الجواد فى رواية نجيب محفوظ ” قصر الشوق ” الذى تصور محبوبته ملاكًا سماويًا يخلو من كل ما ينسبه إلى جنس البشر! وأيضًا فى حسنى بطل رواية محمد عبد الحليم عبد الله ” شجرة اللبلاب ” وإن ضيعه الشك فيما بعد، وفى العديد من بطلات يوسف السباعى.. وأمثلة أخرى كثيرة.
وظلت الرومانسية سدى الكثير من أعمال المبدعين فى جيلى الأربعينيات والخمسينيات ، والمثل الأوضح أعمال محمد عبد الحليم عبد الله التى اعتمدت على ثنائية الشك والخيانة، لكن الرومانسية ظلت بعدًا رئيسًا فى أحداثها ومواقف شخصياتها. أذكرك بشمس الخريف وبعد الغروب والوشاح الأبيض وغصن الزيتون وغيرها.
ومثلت أعمال إحسان عبد القدوس بائع الحب، وصانع الحب، والنظارة السوداء، وما تلاها ملمحاً مغايراً، قوامه العلاقات الجنسية المباشرة، وحين يخشى الفنان مقص الرقيب – وكان الرقيب بعداً مهماً فى عمليات النشر – فإنه يكتفى بوضع النقاط بدلاً من العلاقات الصريحة.
فلما ظهرت أولى مجموعات يوسف إدريس ” أرخص ليالى ” قدمت صياغة جديدة للتجربة الإبداعية المصرية بأعمال ترصد الواقع ، وتقتحمه، وتلتقط جزئياته بكل ما قد تنطوى عليه من فجاجة وبساطة. حتى الرومانسية البازغة فى قصة حب بين حمزة وفوزية فى قصة حب ما لبثت أن غابت فى توالى الأحداث السياسية. ثم فرض المشروع القومى بأبعاده المختلفة – فى الستينيات – على إبداعات الشباب، محاولات تعنى بالتجريب على المستويين الشكلى والمضموني، وكان أبرز ما عنيت به مشكلات الإنسان المصرى فى مواجهة الظروف القاسية، وسط داخل يتسلط بالقهر ومصادرة الحريات، وخارج يحاصرنا بالتآمر ومحاولات التدخل وفرض التبعية.
النظرة المتأملة – أو حتى المتصفحة – للكتابات التى صدرت فى السنوات الأخيرة، تجد أنها تحفل بزخم من الشخصيات والأحداث التى تدعو إلى التأمل، وربما الدهشة. وكان ذلك – فى تقديرى – سببًا فى تحقيق هذه الكتابات أرقامًا غير مسبوقة فى التوزيع، حتى بالنسبة للمبدعين الذين استقرت مكانتهم.
فى ظنى أن تلك الكتابات لم تصدر فحسب عن مجرد المسايرة، أو المغايرة، أو تلبية الشروط التى يطلبها الناشر، أو مانح الجائزة الأجنبى. ذلك تبسيط شديد للمعنى الذى تصدر منه هذه الكتابات، وتعبر عنه. ثمة ظروف معلنة فى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، أبرزها تشوش الهوية، وعدم الانتماء، وتسلط الوصولية والانتهازية، وغياب المثل الأعلى، وظهور طبقة محدودة ومحددة على حساب فئات المجتمع الأخرى، وغيرها.
كانت ” موضة ” الستينيات فى كتابات أعداد من المبدعين هى مجاوزة الغموض، أو الإضمار، إلى التلغيز، كتابة ما يباهى الكاتب نفسه بأنه لم يفهمه، وقد رأيت بنفسى أديبة مرموقة آنذاك، ترد عملًا لصاحبه بحجة أنه ليس غامضًا كما ينبغى!. وأذكر أن مجلة ” سنابل ” التى كان يتولى تحريرها الفنان والناقد الراحل محمود بقشيش والشاعر عفيفى مطر، قد أفردت ملفاً بعنوان: لماذا الغموض فى أعمالنا الإبداعية؟
ثم تلاشى ذلك الاتجاه، وفرضت المواهب الحقيقية إبداعاتها، وحتى الآن فإن إبداعات الستينيات هى أجمل المعطيات فى حياتنا الإبداعية.
قرأت الكثير من الإبداعات الشابة، ووجدت فى الكثير ما يدعو إلى التقدير، ووجدت فى الأقل ما يحاول الخضوع لإغراءات قد ترفضها الموهبة !. الكاتب يسعى إلى تطويع موهبته فى التعبير عن تجارب قد تكون بعيدة عن خبراته المعرفية والخبراتية والجمالية، أو حتى مخيلته!
كم تأثرت لشاب يقرأ عملاً من تأليفه، يشعر أنه يقرأ ما لا يعبر عن موهبته بصورة حقيقية، فيتعمد القراءة بصوت شاحب، أو طمس نهايات الكلمات، كأنه يخجل مما تحفل به من علاقات شاذة وجهارة جنسية ومحرمات ومغايرة للمألوف إلى حد رفض المعتقد الدينى. أعرف أنه أراد أن يتاح له ما أتيح لبعض أبناء جيله من النشر الذى يتقاضى مقابلاً لها. العادة، فى الأعوام الأخيرة، أن المؤلف هو الذى يدفع – وربما وجد سبيله إلى الترجمة بواسطة الناشر -نفسه، والذى رصدت مؤسسة أجنبية مبلغًا هائلًا تحت تصرفه بدعوى تشجيع حرية الرأى.. حرية الرأى وليست القيمة الجمالية للإبداع !
غياب الرومانسية فى كتابات الشباب لا يحتاج إلى نقاد أدبيين بقدر ما يحتاج إلى علماء اجتماع يرصدون الظاهرة، ويحللونها، ويتوصلون إلى نتائج تفيد فى وضع صورة حقيقية للمجتمع، باعتبار أن هذه الكتابات مرايا – بدرجة وبأخرى – لهذا المجتمع الذى عبرت عن ملامح من شخصياته، وتطورات حياته.. هذه الكتابات محاولات فنية ينبغى أن تقرأ. من حق النقد أن يجد فيها ما يستحق التشجيع، أو يجد ما يدعو إلى المؤاخذة، لكنها تظل وثائق اجتماعية مهمة، ومطلوبة.
فى ضوء هذه النظرة للرومانسية، فالملاحظ أنها مثلت بعدًا رئيسًا فى الإبداع المصرى – الرواية والقصة القصيرة بخاصة – منذ كتابات الرواد، بصرف النظر عن البداية، وما هى الرواية الأولى أو القصة الأولى، فإن الرومانسية – بالمعنى الذى أشرنا إليه – هى سمة كل البدايات، فرواية زينب لمحمد حسين هيكل أملاها الحنين – على حد تعبير الكاتب – فجاءت محملة برومانسية ترى حتى فى الفقر شيئًا محببًا ودليلًا على التكافل، ورواية عذراء دنشواى لمحمود طاهر حقى تناولت مأساة دنشواى من خلال قصة حب ساذجة وبريئة بين شاب وفتاة من أبناء القرية، الأمر نفسه فى أعمال محمود خيرت ومحمد لطفى جمعة وطه حسين وغيرهم. بل إن تأثيرات الأعمال المترجمة فى الثلث الأول من القرن العشرين مثل آلام فرتر وماجدولين وسيرانو دى برجراك وغيرها، انعكست على أفكار شباب الفترة وتصرفاتهم، وحفلت رسائل المحبين – كما فى عودة الروح لتوفيق الحكيم – بفقرات مطولة من ماجدولين، أو تحت ظلال الزيزفون.. خذ بالك من العنوان!
وحين قامت المدرسة الحديثة حاول مبدعوها – محمد تيمور وأحمد خيرى سعيد ومحمود طاهر لاشين وغيرهم – أن يلامسوا مشكلات البيئة المصرية، لكن مجموع كتاباتهم وشى برومانسية تقف فى الضفة المقابلة للواقعية. ورغم تركيز محمود كامل – فيما بعد – على أوضاع الطبقة الوسطى، والعلاقات الأسرية بعامة، فإن شباب الثلاثينيات أقبل على قراءة قصص مجلته الشهيرة ” الجامعة ” ومؤلفاته القصصية، لأنها – والكلام للنقاد – تحركت فى إطار الرومانسية.
والآن ، فإن اتجاه الكثير من إبداعات الشباب – والمتحققين أحيانًا- إلى الصور الشائهة والسلبية والأمراض الاجتماعية التى يعانيها المصريون، ينشدون – والتعبير لعبد الرحمن مجيد الربيعي – رضا المستشرقين ، ورضا من يترجم إبداعاتى التى توظف التراث إلى لغته، فيحولون الواقع العربى إلى مجرد مشاهد فولكلورية فى الموت والزواج والجنس والطعام وأساليب الحياة، بحيث يتحول العمل الإبداعى إلى مجرد مشهد سياحى من واقع مجتمعات لا تعيش عصرها. (عبد الرحمن مجيد الربيعي: الخروج من بيت الطاعة) .
وللأسف فإن من يكتب بتأثير الخبرة الفنية أو الشخصية، وبما تمليه موهبته، قد يواجه بالقول الرافض : انت عامل رومانسى؟!