»»
✍️ أحمد رفاعي آدم
(روائي وأديب )
استكمالاً لما نشرناه في مقال سابق عن أصل العنصرية نقول؛ أن إيمان علماء البيولوجيا والأنثروبولوجيا الأوربيين بتفوق العِرق الأوروبي على باقي الأجناس كان بلا حدود، فلم يكتفوا بالتحيز لأنفسهم ونسب الأفضلية لهم على سائر البشر بل تعمدوا وضع السكان الأصليين للمناطق التي كانت تحت سيطرتهم في أدنى المستويات ولم يتورعوا في نعتهم بالهمجية والبربرية في كتاباتهم العلمية. ولم يخجل بعض علمائهم من أمثال داروين و والاس من التصريح بأن الانقراض التدريجي للأعراق الأدنى سيفرض قدراً أكبر من التناسق أو التشابه على الجنس البشري في كافة أرجاء الأرض، وهو ما تبناه داروين في عملية الانتقاء الطبيعي في المجتمعات البشرية.
فهل هذا منطق؟ انظر كيف اخترعوا الكذبة وصدقوها ثم ألزموا شعوب العالم بتصديقها! لكن لماذا كل ذلك؟ ولماذا بالتحديد راجت تلك النظريات في القرن التاسع عشر وتلقفها الرأي العام الأوروبي بصدر منشرح؟
هناك مبررات عديدة لذلك، أولها: أهمية إيجاد غطاء للتحركات الاستعمارية والتوسعات الإمبريالية التي جُنَّت بها أوروبا في تلك الفترة. نعم، لقد كان من الضروري إسكات الرأي العام الغربي وتبرير التوسعات الاستعمارية. كثيراً ما أشاعوا أنهم حماة البشرية وناشرو أصول الإنسانية وأنهم لم يريدوا استعمارًا أو احتلالاً أو إبادةً، إن هم إلا مصلحون معمرون. ولكن هيهات. فقد كانت كذبتهم واضحة وضوح شمس الصيف في سماء بلا سحب.
المبرر الثاني كان يعتمد على إيمان كثير من العلماء الأوروبيين بحتمية فناء المخلوقات الأدنى حتى من بني البشر. وقد صاحبت تلك الآراء العنصرية التوسع الأوروبي وبررت صنائعه ضمنياً أو علناً. من المفزع حقاً أنه لم يكن لدى هؤلاء العلماء شك في مبدأ الانتقاء الطبيعي وتطبيقه على البشر، ولذلك روجوا كثيرًا لفكرة أن الأقدر والأقوى والأكثر تقدماً والأرقى يظلون هم المفضلين الذين يبيدون القبائل الأدنى أو يسيطرون عليها أو يستبدلونها أو يزيلونها من الوجود. كانوا يؤمنون (بغض النظر عن صدق نيتهم) أن مصير القبائل الهمجية (كما كانوا يطلقون عليها) هو الفناء عندما تتواصل مع المتحضرين. إنه قانون الغابة في أوضح صورة.
الآن دعونا نرجع إلى عصرنا الحالي ونسأل. كيف أثر كل ذلك على حياة البشر في القرن الحادي والعشرين؟ كيف أن كثير من تلك النظريات -رغم دحض حجج الكثير منها ورغم أن معظم أفكارها مضت إلى مزبلة التاريخ- لا زالت تترك آثاراً سوداء في عقول ونفوس كثير من الأوروبيين والأمريكيين؟ وكيف تأثرنا نحن “شعوب العالم الثالث”؟
فأما الأوروبيون والأمريكان ومن على شاكلتهم فقد آمنوا أنهم أرقى الأجناس وأنهم أهل النقاء العِرقي، وقد دفعهم ذلك (في الماضي والحاضر) لكراهية النزوح والهجرة واختلاط الأجناس في بلدانهم مهما أبدوا غير ذلك في الظاهر. ولنا في طريقة تعاطيهم مع قضية المهاجرين العرب والأفارقة في السنوات الأخيرة عبرة. رغم أن الأمانة تقتضي ألا نعمم الصورة فهناك قلة منهم يؤمنون بالمساواة وبحق الجميع في الحياة بشكل متكافئ إلا أن الغالبية العظمى منهم على غير ذلك.
وأما سكان دول العالم الثالث (ممن كانت بلدانهم أو لا زالت تقع تحت وطأة الاستعمار سواء العسكري أو الثقافي) فقد تأثروا سلبياً بتلك الأفكار فآمن أكثرهم بأنهم مخلوقات درجة ثانية، لا يرتقون لنظرائهم الغربيين الذين هم دائماً الأفضل والأعلم والأذكى والأمهر والأكثر قدرة على التقدم والرقي. للأسف الشديد تأثرت أجيال كثيرة بذلك فأصبح كثير من شبابنا منبهرين بالفقاعة الغربية وتملكهم العجز بأن يحققوا مثل ما حققه غيرهم. وتلك أكذوبة ينسفها كل يوم العلماء والرياضيون العرب. ولنا في محمد صلاح فخر العرب أوضح مثال.
مما سبق نخلص إلى أن أصل العنصرية المعاصرة نابع من عندهم، قد أشعلت نارها آلة الحرب وأزكتها أطماعهم الإمبريالية وتوسعاتهم الاستعمارية ومن يقرأ التاريخ يقف على حقيقة ذلك. وإذا كانت العنصرية بدأت من هناك فالقضاء عليها لابد أن يحدث هناك والبداية تكون بمواجهتهم وشعوبهم بتلك الحقائق، فأول تصحيح الخطأ الاعتراف به.