»» بقلم ✍️ د.حنان سالم
(دكتوراه الفلسفة المعاصرة جامعة العريش)
لاتزال أزمة “جيل الآن ” قائمة وماتزال المتلازمة معقدة وصلبة نعايشها في كل لحظة، بل وتزداد خطورة، يعاني منها العالم بأسره شرقا وغربا، مع اختلاف الظروف المؤدية لها.
فهذا الجيل لايريد الخروج من اللحظة الراهنة يتمسك بها ولا يقبل تركها، فتؤدي به إلي مقولة “عيش اللحظة “.
وهو بذلك يصح أن نطلق عليهم جيل “اللحظة الراهنة ” الذي لا يستطيع الخروج منها ، فلديه القناعة بها ويخشي من اللحظة القادمة أو بالأحرى يخشي المستقبل.
فما هو تصور “جيل الآن” عن نفسه؟ يرون أنهم محور الكون، يري نفسه متفردا، ومتميزا، مختلفا عن من سبقوه، كما ان لديه توقعات خيالية بأن من حقه المعاملة الراقية والرقيقة، لأنه يتميز عن أقرانه، فكأنه ولد أكبر سنا من عمره الحقيقي، وأكثر وعيا ونضجا من الاجيال السابقة، لديه حلم – عند بعضهم – بعالم أفضل له ولأولاده من بعده ، وربما ينجح في تحقيق ذلك رغم كل قلقهم وتوترهم ومشاكلهم الكثيرة، ولم لا؟ فبعضهم “المتفائل منهم” يكتب علي صفحته الافتراضية (سنكون يوما ما نريد… لا الرحلة ابتدت ولا الدرب انتهي ) والبعض يكتب ” ride or die ”
هذا الشعور يجعلهم جيل حساس، وضعيف يتأثر بأي شيء عند أول صدمة مع مشكلات أكبر من قدراته العقلية.
وقدانتشر هذا الشعور في العالم كله بين ابناء هذا الجيل منذ عام ٢٠١٠م، فقد بدأ في المجتمعات الغربية أولا ثم انتقل إلى المجتمع العربي وأصبح يعاني العرب من أزمة “جيل الاستحقاق” حيث يرغب في كل شيء سهل ومريح لا يحب التعب أو الجهد الزائد في عمل أي شيء لأنه رقيق وينكسر بسهولة.
وعليه ظهر مصطلح “جيل رقائق الثلج” عام ٢٠١٦ (Generation Snowflake ) بقاموس كولينز الإنجليزي لوصف البالغين المولودين خلال الفترة بين عامي (١٩٨٠م ، ١٩٩٤م) ،والذين كانوا “أقل مرونة وأكثر عرضة للإهانة والاستخفاف بهم من الأجيال السابقة “، فأصبحوا أكثر تمحورا وانغلاقا حول الذات.
وكتبت ” كلير فوكس” الكاتبة البريطانية مؤلفا خطيرا بعنوان ” أجد ذلك هجوميا ” تصف فيه جيل الآن حيث تقول : والآن نحن أمام جيل من الشباب والمراهقين الذين يعتبرون أنفسهم ضعفاء وهشين وأن منادتهم بألفاظ سيئة يؤدي إلى حالة نفسية تتطلب العلاج النفسي، فأصبحوا يضيفون المرض النفسي علي كل شيء في حياتهم : مشاكل الحياة اليومية، الامتحانات الدراسية، النقد الموجه لهم “بمعني أنهم أصبحوا مؤخرا الجيل المسمى بجيل “رقائق الثلج” ، أي الجيل ” الهشٌّ نفسيا” نسبة إلى ضعف الرقائق وعرضتها للإنكسار بسهولة، فضلا عن عدم تشابه أي من الرقائق مع الأخري.
وبهذا أصبح الجيل لديه لامبالاه وعدم تحمل للمسؤلية، فضلا عن تسامحه الدائم في كل شيء والذي يعطيه شعور بالسلام الداخلي، رغم أن هذا ليس حقيقته. بالإضافة إلي عدم رغبته في النضج، وتصرُّفه بشكل غير مسؤول أمام واجباتهم الحياتية، ورغبته الدائمة في التهرب من أي ثقل أو تعب، واستبعاد أي ضغط من حياتهم؛ ما يجعلهم أطفالا كبارا في المجتمع وهذا ما جعل المحللين النفسين يطلقون عليه (متلازمة بيتر بان).
كل هذا عن جيل “الآن” في المجتمعات الغربية أمريكا وأوروبا، أما عن مجتمعنا العربي فالأمر فيه قواسم مشتركة مع الفكر الغربي إلي حد كبير.
وقد اتضح ذلك من خلال متابعتي لمشاكل الجيل بمواقع التواصل الاجتماعي علي فيسبوك ،تويتر ، مواقع اليوتيوب وغيرها.
فالأزمة في اعتقادي هي أزمة مجتمع بأكمله الكل مشارك فيها لها عدة محاور ومسببات.. من بينها التغيرات الاجتماعية التي حدثت وجعلت الشباب محبطا وقلقا من المستقبل، رغم أنهم مصدر هذه التغيرات.
يقول “جاك دورسي” ، رئيس مركز الخواص الحركية للأجيال في بريطانيا : الحقيقة هي أن جيل “الآن” يواجه مجموعة متنوعة من التحديات التي لم تواجهها الأجيال الأخرى في نفس مرحلة الحياة، والضغط الدائم لوسائل التواصل الاجتماعي الموجودة بشكل مباشر على هواتفهم الذكية.
وعليه قد يعتقد المنتمون لجيل الآن أن جيل آبائهم أو أجدادهم لم يناضل بما فيه الكفاية ضد القضايا الاجتماعية”.
وفي تصوري أن من أهم هذه التغيرات هو تحول الاسرة إلي “الاسرة النواة ” بديلا لبيت “العيلة” ،أو كما يقول علماء الاجتماع “الأسرة الممتدة” التي تكون فيها السلطة للاب الجد ،وتتمثل واجباتها في عملية التنشئة السليمة والتربية الإيجابية، والتقويم الدائم للأطفال ونقل التراث واللغة من جيل لآخر، فلا شك أن تعليم الأطفال وغرس الانضباط والنظام في نفوسهم منذ الصغر ، يكون له مردود إيجابي في التنشئة السليمة.
وبذلك تكون الاسرة قد فقدت دورها في التربية الإيجابية وخصوصا بعد التحولات السريعة من حولنا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ،وذلك بسبب انشغال الآباء “الأصل ” في العمل لساعات طويلة خارج المنزل ليجمع أكبر قدر من الأموال أو السفر للخارج من أجل تحقيق مستوي معيشي متميز لابنائه، كذلك انشغال الأم في تحقيق ذاتها عن طريق العمل أو الانشغال في تحصيل متابعات عبر مواقع التواصل ،يشعرها بتحقيق الذات أو حتي بالخروج مع صديقاتها. هذا فضلا عن المشكلات الأسرية والعلاقات الهشة في الاسرة مثل الانفصال بين الطرفين والتفكك الأسري الذي يعود بفقدان الثقة عند الأبناء في كل شيء وقد يؤدي بهم للجوء إلي آخرين أو رفاق سوء يبكون في أحضانهم لعدم وجود مرجعية سوية.
وفي غمار هذا الزحام نسي الآباء تحقيق مستوي أخلاقي وقيمي متميز للأبناء “الفرع” فمثلا نجد بعض الأسر تربي أبناءها علي مصطلح “عيب” ، بدلا من “حرام” ،وربما تمرد علي قيم المجتمع واقترف أي شيء خارج المألوف، مثلما رأينا في دراما “الهرشة السابعة” ، واحيانا قد يلجأ للهروب من المنزل اوالادمان أو ارتكاب جرائم قتل “الحبيبة” مثلما رأينا في مجتمعنا العربي في الآونة الاخيرة أو الانتحار والتخلص من الضغوط من حوله بسبب عدم قدرته علي المواجهة وتحمل المسؤولية.
وبناء علي ذلك يظهر ما يسمي بظاهرة ” الفراغ العاطفي”، بسبب تفكك الروابط الأسرية، وهشاشة العلاقات وأشياء أخرى..
يقول الطبيب النفسي عماد رشاد عن الفراغ العاطفي “هو فجوة تظهر داخل النفس ويمثلها احتياج لوجود أحدهم بالجوار، يغذيها عدم تمكن الأهل والأصدقاء من التفهم والمشاركة “!.
وهذا يؤكد أن غياب الاسرة عن أبنائها حتي وان كانت موجودة،هو غياب عن الدور الرئيس لها في الإجابة عن التساؤلات الكبرى، وأمسي الشباب متخبطين لا يعرفون الهدف من وجودهم في الحياة من الأساس.
وتضاءلت القدرة على مواجهة التحديات، وأصبح الانتحار طريقة للهروب من الحياة التي لا معنى لها، وليس الجميع من هؤلاء غارقا في “اللاشيء “، بل هناك مؤشرات خير في شباب الأمة، والمتأزمين في حاجة للتوجيه والاستيعاب والتفهم والتوجيه الحكيم.
كما انعكست التغييرات الاجتماعية على الجانب القيمي في المجتمع بعد ٢٥ يناير ٢٠١١م ، فالأحداث التي شهدتها مصر فرضت تغييرات كبيرة في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية التي صاغت سلوك المصريين، وأفسحت المجال لبعض القيم السلبية مثل التراجع النسبي لقيم التسامح والإيثار مقابل زيادة ملحوظة في العنف والتعصب، وتغليب المصلحة الفردية والتمركز حول الذات، وغياب العمل الجماعى، وشيوع الثقافة الاستهلاكية.
أيضا من التغيرات الاجتماعية التي أثرت في تفاقم الأزمة هي انفتاح التعليم والتحول التدريجي من المجانية إلي التعليم الخاص الذي ميز بين الطبقات وساعد في ظهور قيم فردية، أنماط سلوكية جديدة والتحول إلي الأنانية ، أيضا التدين الشكلي وضعف الوازع الديني الذي برز في المجتمع مؤخرا مثلما نري بعض الشباب يطلق ” لحيته مع رفع شعره لأعلى” كنوع من الموضة والتي تعطي للشباب الذكور ثقة ورجولة كما يدعي البعض، ولجأ البعض منهم لللتستر وراء الدين والتشدد الديني الزائف الذي أفضي بالمجتمع إلي مشكلات سياسية عميقة الأثر.
وكحصاد طبيعي لكثرة المتغيرات الاجتماعية والبيئية والصحية والإنسانية، التي تؤرق الجيل ،اختار الكثير من الشباب العزلة ،بعيدا عن الأهل ، وفضل هؤلاء البقاء داخل منطقة راحة صغيرة خاصة – اطلق عليها من قبل ” كهف افلاطون” – تضم شبكة محدودة من الأصدقاء المتشابهين في التفكير، حيث يكون معظم نشاطهم الاجتماعي افتراضيا عبر الإنترنت،
وهذا ما يجعلهم “غير اجتماعيين بالقدر نفسه الذي كنا عليه في جيلنا أو الأجيال التي سبقتنا، وهناك خطر من أن يصبح عالمهم متقوقعا ،ومتجها إلى الداخل “كهف افلاطون” ، ويمكن أن يتسبب ذلك في حدة الأزمة أو المحنة.
الخلاصة أن شباب اليوم ليسوا مستعدين لتقديم نفس التضحيات، التي قدمتها الأجيال الأكبر سنا، أو أنهم ليسوا بنفس القوة التي كان عليها آباؤهم أو أجدادهم من قبل.” فکيف يمکن أن ننسب حقوقا لموجودات ( جيل الآن ) توجد بالقوة على حساب موجودات توجد بالفعل “جيل الاباء “؟.
وهناك محاور وإبعاد أخري تتشابك مع البعد الاجتماعي،سنعرض لها في تناول جديد..والله المستعان.