»»
بقلم ✍️ د.صفية فرجاني
( أديبة وروائية)
الأديب عبدالحميد البسيوني أحد أهم المبدعين في مصر ،والذي صدر له المجموعة القصصية الأولى “أصوات في الليل “عن دار الثقافة الجديدة عام ١٩٧٩م، وصدر له المجموعة القصصية الثانية بعنوان “أخطاء صغيرة ” ١٩٩٥م عن الهيئة العامة للكتاب، ثم صدرت له المجموعة القصصية الثالثة بعنوان”عدة أسباب للقسوة ” عن أدب الجماهير ١٩٩٧م ، ثم صدر له العمل الروائي الأول ” أن تكون في نجريللي” عن مركز الأهرام للنشر ،٢٠١٥.
وأخيرا مجموعة قصصية بعنوان “مساءات مرة” عن نادي القصة المصري ضمن أول إصدار لنادي القصة المصري بعد فترة انقطاع واستئناف اصدار الكتاب الفضي للنصوص السردية ٢٠٢٣م.
منذ العتبة الأولى للمجموعة القصصية يأتي الإهداء، والذي نلمح منه معاني ودلالات تعبر عن محتوى القصص داخل المجموعة القصصية يقول فيه
“في آخر الطريق… هناك .. ألمح وهجا يلمع، هل ياترى سأمتلك الوقت لاحتضانه…
إلى كل ومضات الضوء التي أنارت لي طريقي.. اهدى هذه القصص”..
في آخر الطريق ترى ذات المبدع وهج تلمحه يلمع، ويتألق وهج يعطى للحياة معاني تهديه إلى نور الابداع تجد فيه الذات الملجأ الآمن الذي تنتظره، ولكن يدور تساؤل مع الذات هل هناك مزيد من الوقت لاحتضان وهج الإبداع هذا وجمع ومضاته التى تهدي الذات نور الاشراق والإبداع والتجلي .
من هذا الوهج الذي تراه الذات فتعرف نفسها والعالم المحيط بها (الآخر) تأتي هذه المجموعة القصصية فى علاقة لا تنتهي تبدأ برؤية الضوء والذى عندما يتماس مع الذات يتحول إلى وهج تعايشة الذات المبدعة وتكتب به و عنه.
يغلف أغلب القصص الحنين إلى الماضي “النوستالجيا ” هو مصطلح نفسي مكون من كلمتين هي و”نوستا”(nostos)،
والتي تعني العودة إلى الوطن والشوق إليه والحياة (algos) معناها الألم، ونجد مفهوم النوستالجيا فى الأدب الكلاسيكي المستمد من ملحمة اوديسة، حيث يسترجع بطل الملحمة(اوديسيوس) ذكريات عائلته طوال رحلته الشاقة إلى وطنه بعد عودته من حرب طروادة (Austin.2010).
ويرى باتشو
(Batcho,2018 )
أن هذا المفهوم قد تطور فى أواخر القرن العشرين فى الأدب الحديث ، وأصبح يعرف بالحنين إلى الماضي، والذى يظهر على شكل شوق عاطفي حزين نحو خبرات الماضى. فالنوستالجيا عملية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة،ولحظات سعيدة من الذاكرة لاسيما عندما يواجه الفرد ضغوط وأحداث تسبب الشعور بالضيق والكرب والحزن.
فى قصة “الأسف لم يعد يليق بي”، حيث تبدأ بجملة ” هزني الشوق ودعاني إلى أماكن حياتي السابقة.
الحنين إلى الماضى والذى يحمل في طياته الذكريات المبهجة للذات المغلفة بالألم والشحن .
يحن الراوي وهو في سن الكهولة إلى الإسكندرية والى ” تريانون” تحديدا كى يشاهد البحر ويجلس على نفس المقعد ونفس المنضدة ونفس فنجان القهوة الذى كان يجلس فيه ويقابل الحبيبة..
وكأن الزمن توقف ولم تدور الأيام .النوستالجيا هى تثبيت اللحظة الماضية التي تشعر معها الذات بالألم والسعادة معا أو كلاهما في الوقت ذاته فى تجربة تمزج بين الفرح والحزن وتسبب الشطارة ذاتيا.
رغم أن استرجاع اللحظة تحمل ذكري الألم النفسي والتى فيها تخبر الحبيبة الراوي بعلاقتها وحبها لزميل دراستها .وهو الذى لم يكن يعرف عن هذه العلاقة أبدا.
يتذكر الراوي الساعة التى ترك فيها حبيبيته الواحدة بعد منتصف الليل .تركها وحيدة تعيسة “اتقطع تيار الحياة فجأة من روحها وجسدها بعد أن تزوج حبيبها” ص٨”
تعددت اللقاءات بينهما في “تريانون”، لأني اعشق هذه الأماكن وسط المدينة أشم فيها عبق الإسكندرية القديمة؛ رائحة كتاب عظام عاشوا هنا أكلوا وشربوا وكتبوا عنها كتابات باقية ماتزال تضيء دربي”ص١٠”
المكان وسحر الإسكندرية تتغلغل في نفس الراوي،وتحديدا الإسكندرية القديمة التي يرى الراوي فيها نفسه ويرى أدباء عاشوا في نفس المكان كانت كتاباتهم تضىء دربه.
في هذه اللقاءات كان يحاول أن يخفف من جرح الحبيبة والتى لم يهدأ جرحها أبدا مقارنة مع حالته هو والذى بدأ يتعافى بسرعة.
“كانت لغة ميتة تجمعنا تتأملني ويعضها الندم..أتأملها،والغضب الذي كان في داخلي يزول..”
رصد اللحظات الداخلية عندهما كان يوحي بأنها في طريق أن تغادر الحياة .
“كان فيروس خبر زواج صديقها قد انطلق قاصدا كبدها وأخذ يعمل عمله “ص٩”
في حين أن ذات الراوى لا تهتم “دخلت عالمي الخاص وانشغلت بكتبي واحبابي الجدد” ص١٠.
كانت على حافة الموت وتطلب أن تراه ” عايزة أشوفك ضروري “ص١٠
لم يذهب للقائها الأخير ثم بدأ يشعر بالندم “بدأ ما يسمونه تأنيب الضمير يخربش داخلي..بدأ يعكر صفو حياتي “ص ١٠”.
بدأ الحنين والعودة إلى لحظات الماضي هى كل ما تتمنى الذات ،استرجاع بعض من أيام مع الحبيبة.
“يجعلني اشحذ كل حواسي لاستحضارها، واجبرها على شرب كوب الليمون الذى تحبه”ص١١”،ثم يتجسد له صوت الحبيبة بهمس يسمعه بصعوبة وسط ضوضاء زبائن تريانون يقول له: الأسف لم يعد يليق بك.
ورغم مرارة الذكرى إلا أن في استعادتها تسترد الذات توافقها النفسي وكأنما استعادة جزءها المفقود منها.
أما في قصة ” فات الميعاد” والتى تدخل عالم الطفولة فيها ونجد الراوي المحامي يستعيد عالم الطفولة بمعاناته حيث كان يعاني الفقر فى قريته، ويسترجع علاقته بأمه والتى كان يحلم بأن يشترى لها” شبشب تلبسه فى قدمها بدلا من تجوالها حافية فى شوارع وحواري قريته والقرى المجاورة وهي تحمل مشاة الجميز مصدر رزقهم الوحيد بعد موت الوالد “ص١٣”.
يحتفظ بخمسة قروش ويذهب مشيا على قدميه مسافة عشرة كيلو متر إلى مدينة “اجا” عله يجد دكان لبيع الشباشب ، ويكلفه شراء عدة أقراص من الطعمية يسد بها جوعه أن يتبقى معه أربعة قروش لاتكفي شراء الشبشب، يتذكر الراوى معاناته عند عودته
“اغشت الدموع عينيه وكانت السيارات تخبطه.”ص١٦” ،لتكون هذه الذكري رغم مرارتها هى الجدار الذى سيظل يكبر بداخله ليغير حياته تغيرا كاملا، لم يعد إبن شهيرة بائعة الجميز بل تفوق في كلية الحقوق ” ظل متفوقا يحقق أمنية أمه التى حولت عرقها وشقاءها إلى دمه الذى يسير فى عروقه بعد أن فشل فى صغره أن يحمي قدميها من التآكل وسط تراب البلد و كلابها المسعورة”ص١٧”.
وهنا يتفق رؤية المبدع عبد الحميد البسيوني مع رؤية علم النفس المعاصر طبقا (Mallory,et.al ,2018) في أن “النوستالجيين” الذين يظهرون توجها متكررا فى الحنين إلى الماضى يتميزون عن الآخرين برؤية الماضى كقوة إيجابية تميزهم عن الذين يتجاهلون “نسبيا” الماضى أو الذين يتشبثون بالماضي ويرفضون العيش فى الحاضر “النوستالجيا المتطرفة” لم تغفل الذكري أبدا، فهى القوى الكامنة المحركة للذات للتشبث بمعنى جديد للحياة توجها نحو التعالي عن الألم والانصهار فيه للخروج بمعنى جديد يبهج النفس ويسعدها ويذيب المعاناة العالقة بها، حيثما لا سبيل للنجاة إلا بالصمود ..
تطنطن الأغنيات احتفال بعيد الأم، فتحيا الذكرى التي لم تمت ابدا
“أيقظت المشهد الذي كان قد نام طويلا وسط مشاغله “ص١٧”.
تتوفى الأم بعد أن ظلت في رعاية ابنها في مدينة المنصورة بعد نجاحه المهني كمحامي وبرغبتها تعود للبلدة الريفية “عاوزة أموت في داري”..
يعاوده الحنين إلى ذكرى شراء الحذاء لأمه رغم تيقنه بوفاتها وانتقالها إلى العالم الآخر “لماذا انطلق الألم هذه المرة قويا، شي يسرى فى دمه.. في أحشائه، يزن في رأسه دون سبب واضح. “ص١٨”.
يذكر (Hepper et al,2012) أن النوستالجيا ترتبط بالنمو النفسي الإيجابي ، حيث تعمل كميكانيزم يدفع الفرد نحو الحفاظ على كيانه الشخصي وزيادة قدرته الذاتية.
حتى تستعيد الذات تماسكها بإتمام الفعل إلى لم يتم في الطفولة وهو شراء حذاء للأم، والذي كان يسبب اضطراب نفسى وذكري عالقة محملة بالألم النفسى والذى لم يفض بعد .
ولأن الحنين إلى الماضي “النوستالجيا ” يعتبر عملية محفزة تؤدي بالذات نحو الشعور بالراحة والتعامل مع خبرات الماضي المؤلمة باستعادتها، وتطهير النفس مما علق بها لشحن الذات بطاقات متجددة لاستمرار الحياة.
يقول الراوى بعدما استعاد توازنه النفسي
” لمح شجرة النبق العجوز أمام قبر أمه ووجد باب المقبرة مغلقا بسلك رفيع أسود إزاحة، ودخل
في هدوء، كان يحمل الصندوق المزركش بيده اليمنى و اليسرى، ووضع يده على حافة القبر؛ السلام عليك يا أمي جبتلك هدية عيد الأم .
كانت الدمعة المتحجرة القديمة قد بدأت تذوب داخل عينيه وتتساقط ، جففها بهدوء وخرج. ص٢٠
مع نهاية القصة كانت الذات قد تخلصت من اللحظات السلبية الضاغطة التي مرت بها قديما ، وزاد ذلك من الإحساس بتمسك الذات بتجفيف دموع الحنين إلى الماضي واستئناف الحياة برؤية دافعة للبقاء .
أما قصة “بعض مني… هناك”والتى يتذكر فيها الراوي لحظة فقده لطفله وهو في الغربة وهنا الحنين إلى الماضي “النوستالجيا ” رغم مرارته ولكن هو الحنين إلى الإبن الذى كان تتمني ذات الأب في سنه الكبير أن ترى الابن الذي هو الامتداد الطبيعي لحياته موجود ليكمل مسيرة الحياة.
يتذكر لحظات الألم، يتذكر الصرخة الحادة المدوية تطلقها زوجتة لميلاد إبنه الجنين المتوفي في بطنها .
“ظلت الصرخة مجمدة في ثلاجة الزمن طوال أربعين عاما كاملة “ص ٢١”.
ثم يتساءل الراوي لماذا “تتجسد فجأة أمامي وتبين، لماذا تقف حائلا بيني وبين تيار الحياة المندفع .والذي يكاد يصل إلى نهايته..لماذا الآن…”ص ٢١
هذا التساؤل لا ينتظر إجابة عليه ولكن تبوح به الذات في لحظة ضعف وشدة الضغوط حيث تستشعر الذات قرب دنو الأجل وياخذها الحنين إلى ذكرى مرت عليها أربعين سنة ورغم ذلك مازالت حاضرة في الوجدان حية كأنها كانت بالأمس .
ثم يستدرك الراوي ويسقط إجهاض الجنين الذى لم يرى النور على أحلامه بل على أحلام جيل كامل من الشباب تغرب مثله في الدول المنتجة للبترول واجهضت أحلامه وأحلام الجميع.
“هذا صوت زوجتي أم صوت إجهاض كل أحلامنا ،صوت حزن الغربة والسفر وغياب الأهل وآلام الفراق … صوت العجز عن الفعل والمساعدة ” ص ٢٣-٢٤
في نقل المعاناة من الخاص إلى العالم وكأن الجيل كله بفقد جنينه يفقد أحلامه وطموحه.
ويذكر كابلان (Kaplan,1987) أن هوية الفرد تؤثر على شخصيته وعواطفه والصور التي يحملها حول ذاته،وبما أن هذه الهوية تشكلت في الماضي، فإنها تحمله إلى الحنين إليه، وتجعله يشعر ويفكربطريقة معينة (عقلانية-غير عقلانية)أو( متشائمه – متفائلة).
ويظهر ذلك في المقطع الأخير في القصة حيث تتذكر ذات الراوي بأن “الذي يحيرني أنه فجأة والآن. .بعد أربعين عاما كاملة ..أسمع الصرخة من جديد، تتجسد مثل شيطان، كسد يمنعني من ممارسة حياتي التي أوشكت على الانتهاء، بينما بعض مني يرقد هناك ”
ذلك أنه قرب الوصول إلى نهاية العمر، تتأكد هوية الذات والتي تشكلت عبر مراحل العمر المختلفة ورسخ عندها أنه قرب الإنتهاء من رحلة الحياة تبحث الذات عن هوية أخري تترك لها كل الإرث ،ولأن الهوية ذكرية في الوعي الجمعي والذي تم تشكيلها فإنها تتلفت وتبحث على امتداد حقيقي لها ولا تجده فى الهوية الأنثوية ولكن تبحث عن الهوية الذكرية مثلها، وعندما لا تجدها تبحث عنها في الماضى البعيد ولا تجدها الا في هذا الجنين الذي هو “قطعة مني ” أي ليس امتداد بل تراه الذات صورة منها هوية ممتدة تريدها أن تستمر وتبقى.
وتظهر “الفجاءة والآنية ” هنا كدلالة على الانبثاق من عمق الذات والذي يثير الدهشة للأنا الحاضرة ويظهرها تشعر وتفكر بطريقه بين العقلانية وغير العقلانية بين التفاؤل والتشاؤم وكأن ما يحدث ينكشف لها ولا تدري دلالته.
وهو ما يعطي دلالة على أن الخبرات الماضية “النوستالجيا”
التي صقلت الشخصية تكون بمثابة استراتيجية انفعالية تخفف من حدة التوترات والضغوط التى تشعر بها ذات الراوى .
وأخيرا يرى باتشو( Batcho,201)
إن التوقف عن تذكر الماضي خطوة سلبية وسيئة في التوافق النفسي ، لأن توقف الشخص عن تذكر ماضيه يجعله يتجاهل جزء مهما من حياته ، حيث أن النوستالجيا تحفز القشرة العصبية والسمعية على التذكر ،ذلك أن المنبهات مثل الموسيقى والذكريات وصور الأشخاص والأماكن تعمل على دمج الذكريات وتثير مراكز المتعة في الدماغ ،ولهذا تعد “النوستالجيا” عملية تحسن المزاج والعيش.