تاريخيا فإن حكاية ياسين وبهية تعود إلى أوائل القرن العشرين. وبحسب المصادرالرسمية كان ياسين مجرما عتيدا يعيش في أحد الكهوف جنوب مصر ويبث الرعب في نفوس أهالي القرى المجاورة، وتم قتله بواسطة ضابط شرطة من سلاح الهجانة أصبح وزيرا للداخلية في مابعد.
تقول الرواية إن بهية كانت تعيش في الكهف مع ياسين، وبعد قتله ادعت أنه اختطفها وأجبرها على العيش معه بالقوة. وبعد مقتل ياسين انتشرت أغنية شعبية تقول” ويابهية وخبريني على إللي قتل ياسين”، ونسجت المخيلة الشعبية عديد القصص حول بطولات ياسين ومقاومته للظلم والإقطاع والسخرة وانحيازه إلى الفقراء والمعدمين.
أيا كانت الرواية، الرسمية أو الشعبية، فقد التقط الشاعر والمسرحي الراحل نجيب سرور قصة ياسين وبهية وحولها إلى دراما شعرية صور فيها ياسين بطلا شعبيا يقاوم الباشا الإقطاعي، ويسعى إلى الحصول على حقوق الفقراء في قرية تدعى “بهوت” وهي إحدى قرى محافظة الدقهلية
كما نسج سرور قصة حب بين ياسين وبهية ابنة عمه، لم تكلل بالزواج بينهما نظرا لمقتله على يد قوات الباشا المسيطر على القرية والمتحكم في قوت أهلها.
الملاحظ أن نجيب سرور كتب ياسين وبهية بين عامي 1963 و1964، ثم اتبعها بثلاث مسرحيات هي: آه ياليل ياقمر، وقولوا لعين الشمس، ومنين أجيب ناس.وكل هذه المسرحيات تدور في أجواء ريفية وتتحدث عن الظلم الذي يعانيه المصريون عبر العصور. وربما كتب سرور هذه المسرحيات ليدين العصر الذي يحيا فيه،ويعلن خيبة أمله في الثورة .
تم تقديم ياسين وبهية، مسرحيا، عشرات المرات في مصر، كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني في ثمانينيات القرن الماضي على يد الكاتب الراحل يسري الجندي.
وعلى مسرح الشباب(البيت الفني للمسرح-وزارة الثقافة)يقدم المخرج الشاب يوسف مراد منير، مسرحية ياسين وبهية، التي تواكب عرضها مع ذكرى ميلاد كاتبها، وذلك في أول تجربة إخراجية له، وهي سنة حسنة يتبعها مدير مسرح الشباب، المخرج سامح بسيوني، بإعطاء الفرصة لمخرجين جدد واعدين، بعيدا من حسابات المكسب والخسارة.
لكل عصر إقطاعيوه وباشاواته، ومن هنا فإن استدعاء ياسين وبهية، الآن تحديدًا، له مايبرره، في ظل توحش رأس المال،وانهيار الطبقات الفقيرة والمتوسطة وصعود أثرياء الحرب الجدد.
تعامل يوسف مراد منير مع النص بوعي شديد،صحيح أنه اختزل بعض المشاهد، وصحيح أنه أدخل بعض الأغاني لأحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود، لكن العرض إجمالًا يفصح عن مخرج يمتلك أدواته، ولديه القدرة على صناعة صورة مسرحية شديدة الثراء، وكذلك قدرة على توظيف ممثليه وتسكين كل منهم في دوره المناسب، ومزجه بين التشخيص والروي والاستعراض والغناء الحي، في خلطة شعبية حافظت على جوهر النص ورسالته المضمرة، تلك الرسالة التي يبدو أنها قدر مكتوب على المصريين، بدليل مقتل ياسين، رمز المقاومة، وبقاء الوضع على ماهو عليه، وإن لم تمت الفكرة في حد ذاتها.
منظر واحد صممه عمرو الأشرف مزج فيه بين التعبيرية والواقعية، في العمق بوابة قصر الباشا، يتم الصعود إليها عبر عدة درجات لتبدو مسيطرة ومهيمنة على المشهد، وهي الوحيدة المعتنى بتجميلها لإحداث التنافر بينها وبين البيوت الفقيرة على جانبي المسرح، وبيان مدى الفروق الطبقية في هذه البلدة التي تستأثر فئة قلية منها بكل شئ، بينما لاتحظى الفئة الأكثر سوى بالفتات.
وجاءت الملابس( صممتها رحمة عمر)متوافقة إلى حد كبير مع طبيعة الشخصيات الريفية وإن عابها سوء التنفيذ، وهو أمر يدركه من عاش في الريف المصري أو تعامل معه عن قرب.
ولأننا بصدد مايمكن اعتباره سامرًا شعبيًا، فقد وضع المخرج فرقة موسيقية على يسار المسرح مكونة من ستة عازفين( تأليف موسيقى وألحان محمد علام)وربما كان من الأوفق أن تستبدل هذه الفرقة بالآلات الغربية التي استخدمتها،أخرى شرقية لتتماس أكثر مع طبيعة العرض، وإن كانت الألحان في حد ذاتها قريبة من روح النص( غناء فتحي ناصر)كان العزف الحي بواسطة آلات مثل المزماروالناي والدفوف والرباب سيمنح العرض ثراء وواقعية أكثر.
قدم المخرج كذلك بعض الاستعراضات التي لعب الممثلون خلالها بالعصي، وعلى رغم جودة هذه الرقصات وقدرة الممثلين على أدائها بشكل جيد، فإن بعض التشكيلات كانت في حاجة إلى إعادة نظر، منها على سبيل المثال تشكيل مايشبه نجمة داوود، هو جيد في حد ذاته، لكنه يحمل الأمور أكثر من ما تحتمل، فضلا عن أن هذا التشكيل قديم وتم تقديمه عشرات المرات بخاصة في عروض قصور الثقافة، وإن قدمته فرق قصور الثقافة في سياقات أخرى تخص موضوعات بعينها مثل الصراع العربي الإسرائيلي، بعيدا عن موضوع ياسين وبهية.
التمثيل كان أحد العناصر البارزة في هذا العرض، و مايحسب للمخرج أنه اختار ممثليه بعناية فائقة. لدينا أربعة ممثلين في أدوار رئيسة، على قدر عال من الموهبة والحضور، إيمان غنيم في دور بهية، ممثلة واعية تماما لطبيعة الشخصية التي تؤديها، قادرة على تطويع كل مفردات جسدها، وكذلك إحساسها الداخلي لخدمة الدور، وذلك في توازن دقيق بين لحظات الفرح والحزن والفقد، بعيدًا عن الانفعالات المبالغ فيها، ماجعلها مقنعة تماما في هذا الدور.
ولعبت آية أبوزيد دور الأم والراوية برسوخ ممثلة صاحبة خبرة رغم حداثة سنها بالنسبة إلى الدور، بدت ذات ثقل واضح، وقدرة على الأداء المدهش والواعي بالحركة والسكون واستخدام الجهاز الصوتي ومخارج الحروف وتعبيرات الوجه والجسد عموما بشكل يشير إلى موهبة تستحق الإلتفات إليها.
أما ياسين فقد لعب دوره حازم القاضي، وهو ممثل شاب يمتلك مواصفات جسدية، وقدرات تمثيلية ناسبت الدور تماما. ابتعد هو الآخر عن المبالغات التي تغري بها طبيعة الشخصية، وقبض على جوهرها بشكل جيد ومقنع.
المخرج نفسه لعب دور العم والراوي ورمانة الميزان في العرض بشكل جيد، واعيًا إلى طبيعة الشخصيتين، مازجًا بين الفصحى والعامية، كل في محله، ومعه كذلك ليلى مراد في دور الغجرية، ومن أهل القرية كريم طارق، بهاء سليمان، أحمد شحاتة، مصطفى علاء، محمد البرنس، حسام حسن، أحمد عادل، ريمون أشرف، صابر علي. مجموعة من الممثلين الشباب قدموا معا عرضا لم يلتزم بصرامة نص نجيب سرور وإن أضفى عليه مزيدا من الحضور والصدقية.
المعروف أن مسرح الشباب مهتم بتقديم تجارب المخرجين والممثلين الجدد، ومنحهم فرصة العمل الاحترافي، فلا وجود للنجم بالمعنى المتعارف عليه، وهو ماأثبت نجاحه حتى الآن من خلال التجارب السابقة التي قدمها، مايبشر بإعادة ضخ دماء جديدة في شرايين المسرح المصري، حتى لو شاب هذه التجربة أو تلك بعض الهنات.