»»
بقلم ✍️ د. السامحي عبدالله
(إمام وخطيب بوزارة الأوقاف)
الحمْدُ للهِ الذي كَرَّمَ الإنسانَ بالعَقْلِ؛ ووهَبَهُ مَلَكَةَ الحِفْظِ؛ وَأَمَرَهُ بالتَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ…
وبعد،،، فلا شكَّ أنَّ تَعلُّمَ القرآنِ وتعليمَهُ مِن أفضل الأعمال التي ينشغل بها الإنسانُ المسلم؛ لقولِ النبي –صلى الله عليه وسلم-: “خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ”(صحيح البخاري)، وكذلك؛ لا شَكَّ أنَّ حَفَظَةَ القرآنِ العاملينَ بهِ؛ هم أحبابُ الله وأولياؤُهُ، فقد قال الحبيبُ المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: ” إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ ” قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ، وَخَاصَّتُهُ”(مسند الإمام أحمد).
وحَقِيقَةً؛ أنَا مَا أردتُّ في مَقامِي هذا أنْ أُشِيرَ إلى فضل القرآن العظيم! ولا المنزلة العالية لِحَمَلة القرآن الكريم! إنَّما أردتُ أن أُشير –لكن؛ ليس بالبنان؛ إنَّما بقلبٍ تفطَّرَ حُزْنُهُ؛ وانسكبَ دَمْعُهُ- إلى هؤلاء الذين يزرعون القَسْوةَ في قلوب مَنْ ألَانَ اللهُ قلبَه للقرآن وهَداهُ لحفظه، وإنِّي في مقامي هذا لا أشكو حَفَظَةَ القرآنِ عددَهم؛ إنَّما أشكو عملَهم! وأحاولُ جاهِدًا تسليطَ الضَّوء على سببٍ من أسباب عدم العمل بالقرآن؛ ألا وهو أسلوب التعليم الذي كان مَشُوبًا بالضرب والإهانة.
نعم… فخطابي في هذا المقام مُوَجَّهٌ إلى السادة العلماء الأكارم؛ الذين حفِظوا القرآن وتعلَّموه وجوَّدوا وجَدُّوا وتعِبوا في تحصيله السنين والسنين –فهم صفْوةُ الله مِنْ عِبادِهِ- أمّا هؤلاء الذين ما حفِظوا كتاب الله وما جدُّوا، بل؛ وتصدَّرُوا لتحفيظ كتاب الله وتعليمِه! فليْسَ الخطابُ لهم، فهؤلاء قد ضلَّوا وأضلَّوا، فلا خَيرَ فيهم ولا خيرَ يُرجَى منهم، نسألُ اللهَ العافِيةَ.
فيَا مُحَفِّظَ القرآنِ؛ أسْتَحْلِفك باللهِ الحقِّ المُبِين؛ ماذا نجْنِي مِن حافظٍ للقرآن ليس بعاملٍ به؟! يا مَن تضرب بالعصا –ضَرْبَ إيلامٍ وتَعذيبٍ- تذكرْ؛ أنَّ هذا الطفل الذي هو بين يديك إنَّما أتاك –طالِبًا للعلم- يحمِل كتابَ ربِّه بين يديه، تذكرْ؛ أنَّ أقرانَه –مَنْ في سِنِّهِ- إمَّا على أَسِرَّتِهم نائمون، أو على هواتفهم الجوَّالة عاكفون، وإمَّا في الشوارع والأندية يلعبون!! أمَّا هذا الطفل الذي بين يديك فقد اصطفاه ربُّنا كي يحمل المُصْحَفَ بين يديه ويأتيَ إلى مُعلِّمٍ، قد توسم فيه الخير ليكون له هاديًا ومُرشِدًا إلى كتاب الله -عز وجل- أفيكون جَزاؤُه الإهانةَ والضربَ! ألم يقُلْ ربُّنا في كتابه العزيز: ” هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ “(الرحمن: 60) ؟!
أيُّها المُحَفِّظُ الكريم؛ انظُر حوْلَك كمْ مِنْ حافظٍ للقُرآن الكريم حفِظ القرآن كما أُنزِل، لكنَّه؛ سُرْعانَ ما تَحَوَّلَ عنه وتمسَّك بغيره وما أكمل طريقَ العِلم!! بل؛ ومنهم من هجَر القرآن بعد حفظه له، وربما يكون السببُ في ذلك طريقةَ تعلُّمِه التي تعلم بها، فقد كَرِهَ العَصَا وكَرِهَ الإهانةَ، فكان ذلك مانِعًا له عن خير كثير.
أيُّها المُحَفِّظُ الجليلُ؛ إيَّاك أخي أنْ تَنْساقَ وراءَ دعوى بعضِ وُلاةِ الأمور: [أريد أن تُحَفِّظَ ابني بأي أسلوب كان، بالضرب أو الإهانة، حتى لو استدعى الأمرُ لتكسير عظامه]!! سَلِّمْ يا رَبِّ سَلِّمْ، فهم يظنُّونَ أن الفلاح فى هذا الأسلوب السيء لكنْ؛ أين دورُك أنتَ أيُّها المعلِّم الفاضل؟!
فدورُكَ البَنَّاءُ يَكْمُنُ في التوجيه والتنوير قبلَ التحفيظِ والتعليم، يَكْمُنُ في تصحيح المفاهيم، يَكْمُنُ في رَدِّ هؤلاء عن مقولتهم وإبطالِ دعواهم وإبانة الصواب لهم، فهؤلاء الذين يقولون تلك المقولة ربما يُعذرون بجهلِهم، أمَّا أنتَ فَبِأيِّ شيءٍ تُعذر؟!
لِيَعْلَم الجميعُ أنَّ الحِفْظ وحده لا يكفي دون العمل، وأنَّ حُبَّ القرآن دافِعٌ للعمل، والعملُ هو مقصدُنا الذي نسعى إليه، والله؛ لو أحبَّ الطفلُ القرآن وعرَف قدره وأحبَّ مُعلِّمَه فحفِظَ آيةً لَعَمِلَ بها ولعاد النفع والخير على الأمة جَمعاء، ولقد رُوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ قَالَ: “حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُمْ كَانُوا ” يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ”، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ”(مسند الإمام أحمد).
ولَرُبَّما قَالَ قَائِلٌ: إنْ لمْ يحفظِ الطفلُ جيدًا فلا فائدة من حضوره إلى الشيخ؟! وأُجِيبُك قائلًا: إنَّ هذا الكلام عبثٌ؛ ولا أصل له، فمن الذي قال لا فائدةَ من حُضورِه؟! والله؛ يكفيه حضُورُه إلى المسجد؛ يكفيه جلوسُه أمام عالمٍ عابدٍ يتعلم منه ويتأدَّب بأدبه، يكفيه جُلوسُه وسط أقران أسوياء، يكفيه استماعُ آية من زميل له، يكفيه التبركُ بمسك المصحف بين يديه، فإنْ كان مُدبِرًا عن القرآن ويرغب عنه فما ذكرتُهُ يكفيه، وإن كان مُقبِلًا على القرآن رغبًا فيه ازداد علمًا وحفظًا وأدبًا بإذنِهِ جلَّ في عُلاه.
يا مُحَفِّظَ القرآن الكريم؛ أُوصِيكَ أَلَّا تَغْتَرَّ بدعْوَى بعضِ الشيوخ الذين يقولون: [تعلَّمْنا بتلك الطريقة]!! وإلَّا فاسْمحُوا لي أنْ أُذكِّرَ بآيةٍ، وإنْ كانت لا تليق بأهل القرآن؛ الذين هم أهل الله وخاصته، إلَّا أني اضطررتُ إليها، ألا وهي: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}(الزخرف: 22).
يَا مُحَفِّظَ القرآن؛ يا أخي في الله؛ فَلَاحُكَ ليس بكثرةِ مَنْ يحفظ! نجاحُك ليس بشهرتك مقرونًا! إنَّما نجاحُك في الدنيا؛ ونجاتُك يومَ القيامةِ بحافظٍ للقرآن يعمل به، بعابدٍ خاشعٍ يتلو الآيات في الصلوات، نجاحُك يكون بعالِمٍ صادقٍ يلْتَفُ حولَهُ الناسُ، ويضع اللهُ له القبولَ في الأرض، ويهدي اللهُ به أقوامًا، أيُّها المُحَفِّظُ الجليل؛ هؤلاء هُم مَنْ تراهم يوم القيامة وقد ثَقُلَتْ بهم موازينُك، أمَّا الذين نفروا من القرآن وهجروا العلم والعمل؛ وربما كنت سببا في ذلك الأمر فستحاسب عنهم يوم الحساب، فكُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ.
أيُّها المُحَفِّظُ الكريم؛ اجعلْ هناك عقابًا –لكنْ؛ ليس الضرب- وانظر في كلِّ طالب على حِدَةٍ؛ ما الذي يُؤْلِمُه؟! ربما يؤلمه أن تُخْبِرَ أبَاهُ، ربما يؤلمه أن تُكْرِم زميله دونه، ربما يؤلمه أنْ تُعْرِضَ عنه قليلًا، أَنْشُدُكَ اللهَ -الرقيب- أن تترك الضربَ والإهانة؛ فما جنيْنَا مِنْ وراءِ ذلك خيرًا.
وأنْتَ أيُّها الأبُ الكريمُ الحريصُ على تربية ابنك تربيةً إسلامية؛ لِيكُنْ هدفُك الذي تنشد إليه من وراء تعليمك القرآنَ لابنِك هو إخراجُهُ مِن اتِّباعِ الهوى إلى طريق الحق، أَخْذُهُ من الكسل واللعب إلى النشاط والجِد، نَقْلُهُ من الغَفْلَةِ وهجْرِ القرآن إلى تعلُّمِ القرآن وتدبُّره وفهْمِ معَانِيهِ وحفظِ آياتِه وسورِهِ.
ومعذرةً؛ إنْ قدمتُ في كلامي الفهمَ والتدبُّرَ على الحفظ، فنحن مطالبون بالتدبر، والفهْمُ مُقدمةٌ للتدبر، ولا أقول إنَّ الحفظ ليس مهمًا! ليس الامرُ كذلك، فالحفظ سلاح العالِم، أو كما قال ابن الجوزي: “وليس العِلْمُ إلَّا ما حُصِّلَ بالحفظ “(الحث على حفظ العلم)، لكن يُؤسِفُني أن أقول قد نحَّينا الفهم والتفكُّر جانبًا! لذا أمَا آنَ الوقتُ كي يفيق كُلٌّ مِنْ سُباتِه العميق؟! أمَا ينبغي لمُحَفِّظِ القرآنِ أنْ يُعطِيَ جُرْعَةَ تفسير –ولو معاني الكلمات- لمنْ يحفظ القرآن كي يقف على شواطئ العلوم، ثم يَتبحَّر بعد ذلك إنْ شاء! [فما لا يُدْرَكُ كلُّه لا يُتْرَكُ جُلُّه].
واعلم أخا الإسلامِ؛ أنَّ الحفظ فضيلةٌ، إذا لَمْ يَأْتِ بها المسلمُ فليس مُذنبًا، واللهِ؛ تغيَّرت المفاهيمُ وآنَ الوقتُ لتصحيحها!! فلربما هذا الطفل الذي لمْ يتخط العاشرةَ من عمره أو تخطاها أو ربما بلغ الحُلُم؛ وجرى عليه القلم؛ والذي هو يُضْرَبُ ويُهانُ ويُعَنّفُ من أجلِ تلك الفضيلة؛ في الوقت نفسه ربما يترك الصلاة ويتهاون بها ولا تُسْمَعُ كلمةُ عِتابٍ واحدة!! والصلاة ليست بفضيلة؛ إنَّما هي فريضة، بل؛ هي عمادُ الدين، فكيف يُتَصوَّرهذا؟ بل؛ أين غابت عقولُنا؟ ألم يقل ربُّنا: ” أَوْلى لَكَ فَأَوْلى “؟! (القيامة: 34).
ولا أُخْفِيكم سِرًّا؛ فقدْ كنتُ أُعلِّمُ القرآنَ أعومًا وأعوامًا، ومرّت بي السُّنُون، فواللهِ؛ ما نَدِمتُ على شيءٍ ندمِي على طفلٍ عنَّفْتُه يومًا أو ضربتُه –وهو يحمل بين يديْهِ كتابَ رَبِّهِ- ولا أَرَى أنه يكفيني صدقُ نِيَّتِي؛ وأسألُ ربِّي دائمًا العفْوَ والصفْحَ، وكثيرا ما أستحضر قول الله –عز وجل-: ” وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ “(النور: 15).
وخِتامًا؛ رسالةٌ إلى الآباء؛ رسالةٌ إلى من يريد أن يتعلَّم القرآن أو يُعَلِّمَ ابنَه أو يتعلَّم عِلمًا من العلوم الشرعية، دَقِّقُوا وانظُروا عمَّنْ تأخذون دينَكم، فَحَرِيٌّ بِنا أن نجتهد في اختيار المُحَفِّظ والمُعلِّم، ونسأل أهل هذا الفنِّ؛ مَن الأمينُ؟ مَن الوَرِعُ؟ من الأتقنُ؟ فقد قال عبدُالله بن مسعود –رضي الله عنه-: ” لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ وَعَنْ أُمَنَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ , فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا “(المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي).
أَسألُ اللهَ –تعالى- أن يجعلَنا ممِّن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.