»» بقلم الأديب ✍️ (أحمد رفاعي آدم)
حياة الناس مليئة بالأعاجيب، والعجب كما تعلمون ألوان، فقد تتعجب دهشةً وقد تتعجب صدمةً وقد تتعجب فرحةً ،كذلك قد تعجبُ من سلوك إنسان، وقد يثير حيوان أو نبات أو حتى جماد جميع دهشتك، قد يخذلك شخص فتتعجب من سوء صنيعه وتضرب أخماساً في أسداس، وقد تصيبك الأقدار فتلحقك عناية الله فتتعجب من لطفه بك ورعايته لك.
ومن أعجب ما سمعت عن جدتي حكايتها مع جدي -رحمهما الله- في حادثة مثيرة اشتُهِرتْ في عائلتنا بحادثة ليلة العيد وتناقلها آباؤنا حتى وصلتْ إلي! فماذا حدث؟.
الأول دعني أشرح لك وضع العائلة الكريمة وقتذاك، و “وقتذاك” هذا الذي أعنيه كان في أربعينات القرن الماضي تقريباً. كان جدي قد تزوج زيجته الأولى وأنجب ولدين “رشاد” و”فؤاد” -رحمهما الله- ثم حدثت بينه وبين زوجته خلافات لم تُحَلْ فطلَّقها ولمَّا يعبر الصغيران أعتاب الطفولة بعد (كان عمي رشاد وقتها ٣ سنوات، وعمي فؤاد سنتين)، ثم تزوج بعد ذلك من جدتي “فاطمة”.وعليه فقد كانت الأسرة حين وقعت تلك الحادثة مكونة من أبٍ وزوجةِ أب وطفلين ليسا ابنيها شاءت الأقدار أن تتعهدهما بالتربية والأمومة والتنشئة.
كانت ليلةُ العيدِ وكان الجو يعبقُ بنسمات رحمات آخر أيام شهر رمضان، جدتي كسائر القرويات في ذلك اليوم كانت منهمكةً من طلعة النهار تجري هنا وهناك وكلها نشاط وبهجة: نظفت الدار ورتبت المندرة وطبخت الأكل وحمَّرَتْ البطة وخبزت حاجيات العيد من عيش شمسي وكحك وبسكوت وليّّنت الترمس والحمص ودمَّستْ “شوية” فول في المنطال بعدما دفسته في وقيد الفرن (والمنطال إناء من الفخار له ودنان من كل جانب وله فم أضيق من جوفه كانوا يدمسون فيه الفول وكان ما شاء الله يطلع زي الزبدة.. الصعايدة والفلاحون يعرفونه جيداً ولهم معه ذكريات لا سيما في يوم الخبيز)، فعلت كل ذلك ثم حمَّت الطفلين.
أنهت جدتي كل تلك المهام والفرحة تكاد تطل من عينيها، وكانت في انتظار الحاج آدم. قبل المغرب بسويعات عاد جدي من الغيط فاستقبلته هاشة باشة كعادتها. وقبل أن يأخذ مجلسه فوق المصطبة الطين قال لها: “روحي يا فاطنة (فاطمة) هاتِ لي خلجات (ملابس) العيال الجديدة!”
فتك أنا في الكلام .. كان جدي رجلاً صوفيًا ومن أتباع الطريقة، ولذلك سمى أبي -أصغر أبنائه- “رفاعي” تيمناً بسيدي أحمد الرفاعي بعدما شاف رؤية إن جدتي حامل وفي بطنها ولد وطُلِبَ منه أن يسميه رفاعي، وكان زاهداً في كل شيء ومحباً للفقراء معطاءً لهم بغير حساب (رغم أنه هو أيضاً كان فقيراً – لكن ربما من طبقة الفقراء الموسرين)، خذ عندك مثلاً؛ كان يوم الحصاد يعطي للطيبين -والذين كانوا ينادونه يا عم- من الغلة حتى قبل أن يدخل المحصول بيته، وكان يجالسهم ويطعمهم حتى لو لم يكن في بيته غير البتاو “عيش صعيدي إنقرض من زمان”.
نرجع لمرجوعنا .. نادى على جدتي وقال لها: “روحي يا فاطنة (فاطمة) هاتِ لي خلجات (ملابس) العيال الجديدة!” وكان يقصد بالخلجات ملابس العيد. فسألته جدتي بقلبٍ يكاد ينخلع من مطرحه لإنه كان حاسس بالمصيبة: “عاوز خلجات العيال ليه يا أبو رشاد؟” فقال بهدوء وثقة: “جابر أبو عوضين قابلني وقال لي “عاوز كسوتي يا عمي!” .. وبكرة العيد .. والواد قصدني وأنا لا يمكن نرده!” لحظتها صرخت جدتي من كيعانها – يُقالُ ذلك وربما معناه صرخت بشدة وبضمير- حتى أفزعت الأرانب الساكنة فلاذت بجحورها وهيجت الطير فرفرف بأجنحته ورمح حتى آخر الدار وقالت: “يا ناس غيتوني.. تعالوا شوفوا الراجل عاوز يعمل إيه!” ولم يدعها جدي تكمل صراخها ونواحها فما كان منه إلا أنه زعق فيها (ولا أستبعد إنه يكون ضربها) لتصمت ثم دخل الحجرة وعاد بالقماش فسلمه لجابر الذي أخذه ورمح في الحارة كالأطفال مسروراً ودعواته لجدي لا تتوقف. (ربما في نفس وقت كانت جدتي تدعو على جدي!) تسكت جدتي وتلايم الموضوع لأجل أن تنقضي ليلتها على خير؟ أبداً!! ما كان منها إلا أنها دبَّت خناقة لرب السما مع الحاج آدم ثم لمت خلجاتها “هدومها” وأخذت الطفلين وتركت له البيت ومضت من فورها إلى قرية الزوك الشرقية حيث بيت أبيها! طبعاً جدي ولا فرق معاه!! لكن هل انتهى الأمر على ذلك؟! هل تسكت؟ أبداً ..
بمجرد أن وصلت إلى الزوك الشرقية سحبت أختها “سرية” (سرية اسمها، وليس المقصود أنهما ذهبتا في السر) وخرجتا تدوران في البلد حتى عثرتا على بيت بائع الأقمشة فاشترت ثوبين ثم عادت إلى بيت أبيها وظلت طوال الليل هي وشقيقتها (التي لم يكن لها ذنب سوى أنها أختها الصغرى) تخيطان الأثواب حتى صنعتا جلبابين جديدين كانا جاهزين لرشاد وفؤاد في الصباح الباكر ليحضرا العيد فيهما! فعلت كل ذلك وذاقت الويل هي وأختها الغلبانة لكي لا يُحرم الطفلان من فرحتهما بالعيد كباقي الأطفال -والله عفارم عليكي يا جدة!! فعلت كل ما فعلت (خناقتها مع جدي / غضبها وترك الدار قبل العيد بيومين/ أخذها الطفلين معها / شراء القماش / خياطة ثوبين جديدين) كل ذلك لكي لا تحرم ولدَيّ زوجها (واللذين ليسا طفليها ) من بهجة العيد! إنها الرحمة في أبهى صورها. ومن الوفاء أنهما حفظا لها جميل تربيتها وحسن رعايتها لهما لدرجة أنهما نشئا ولا ينادونها سوي يا “أماه”، وقد رأيت ذلك بعيني.
ارجع معي الآن إلى عصرنا الحاضر.. واسأل نفسك: كم من أمٍ تترك أطفالها لغيرها تربيهم؟ كم من أبٍ فضل إنهيار أسرته لمصلحته الشخصية؟ كم من أزواج يتطلقون ويتصارعون في المحاكم دون شفقة أو نظرة رأفة لأطفالهم بل وربما اتخذ بعضهم من الصغار ورقة ضغط على الطرف الآخر ؟ وكم وكم وكم؟ بلاوي مخبأة لا يعلمها إلا الله.
إن تفكك الأسرة الآن بات حدثاً عادياً وأصبح من الطبيعي والمقبول مجتمعياً -رغم خطأه- أن ينشأ الأطفال محرومين من أحد قطبي الأسرة، إما الأب وإما الأم، وربما كليهما! إنه لشيء محزن أنك تسمع بوالدٍ يقدح في طليقته أو والدةٍ تهين طليقها أمام الصغار لكسب مودتهم على حساب تدمير صورة الآخر دون مراعاة لمشاعر هؤلاء الأطفال الذين من أبسط حقوقهم أن يكون لديهم أب وأم يفخرون بهم ويتخذونهم قدوات. حفظ الله عائلاتنا جميعاً.
أيها الناس كونوا رحماءً بأبنائكم وارعوهم حق رعايتهم، وإذا كنتم توليتم مسئولية تربية أبناء غيركم فاتقوا الله فيهم واعلموا أنهم لا ذنب لهم، فالراحمون يرحمهم الرحمن.