تعرفت إلى الدكتور خالد عباس بعد أن قرأت له العديد من المقالات النقدية التى تطلب النشر.
بدا لي اكتشافًا متفردًا ، جميلًا ، فى حياتنا النقدية التى كادت تخلو إلا من المجاملة والشللية والابتزاز والبلطجة وعشرات المسميات التي لو أني أوردتها ، فربما احتاجت إلى ما يزيد عن مساحة هذه الكلمات!
أدهشني قوله إنه ترجم الكثير، وكتب الكثير من المقالات النقدية، ومن الدراسات.. وجميعها مخزونة في حاسوبه الشخصى، وكان يحدوه الأمل فى أن تنشرها الدوريات والصحف.
صحبته إلى الصديق طلعت الشايب المشرف على مشروع الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة. ناقشه فى ثلاثة كتب من أحدث ما أصدرته المطابع فى الغرب بدأ خالد عباس فى ترجمتها عن الإنجليزية. وجد الشايب في الكتب التي اختارها خالد عباس ما دفعه للموافقة على استكمال ترجمتها ضمن مشروع المجلس الأعلى للثقافة.
شجعت خالد عباس على تقديم بعض ترجماته ومقالاته ودراساته للمسئولين عن الصحف والصفحات الثقافية. وكانوا يظهرون إعجابهم، وإن اكتفوا بالكلمات الطيبة والمشجعة، فلا مجال في الدكاكين الأنيقة إلا للأصدقاء والمحاسيب وأصحاب المصالح المتبادلة!
زكيته للتحدث في بعض الندوات الأدبية، ربما تقدمه ثقافته وموضوعيته، فيأخذ موضعًا – يستحقه – في حياتنا الثقافية. ولقي الرجل ثناء وإعجابًا.. لكن أمنيته بأن ينشر كلماته ظلت في إطار الحلم المستحيل.
أحدث الإحباط تأثيراته السلبية في نفس خالد عباس. انشغل بالإضافة لكتاباته دون أن تعنيه مشكلة النشر، واحتفظ بكل ما كتب في حاسوبه الشخصى. أسقط من حسابه أن يتعرف إليه قراء الكلمة المكتوبة، واكتفى بعمله أستاذًا فى جامعة القاهرة، والجامعة الأمريكية.
لم يكن خالد عباس يعلق على ملاحظاتي الكثيرة حول تباعد زياراته. أتصور الشحوب في وجهه بتأثير هموم شخصية يكتمها في نفسه: إذا كان هناك ما يشغلك، فلماذا لا تصارحني؟ نحن أصدقاء.
ينتزع ابتسامة في شحوب وجهه، ويهمس – كانت كلماته هامسة – بأن كل شيء على ما يرام، لكنها مشغوليات الوظيفة.
أضاف – ذات مساء – بأنه يعد للدكتوراه في قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس، وهو ما أكده صديقنا المشترك الدكتور يوسف نوفل الذي كان يشرف على الرسالة.
عرفت طبيعة المرض وخطورته بعد أن رحل خالد عن عالمنا. حدثتني السيدة حرمه عن حرصه على إخفاء المرض عن الجميع، حتى عن أمه وإخوته. وكان يحذرها من أن تتحدث إلى أحد عن مرضه. إذا كانت الضرورة قد أتاحت لها التعرف إلى المرض، فإن ما عرفته يجب ألا يعرفه الآخرون!
قالت لي الزوجة إن خالد عباس أدرك أنه يعاني مرض الموت، وأن السرطان قد نهش معظم كبده، لكنه أهمل التفكير في التوقعات، وظل يقرأ ويكتب، وكانت أمه – ربما بوجدانها – تشعر بما يعانيه. تهمس: كلمني. يقول: شوية تعب!. وكان يدخل المستشفى – إثر كل أزمة كبدية – ويخرج، فيظل صامتًا.
وحين أتاحت لي السيدة حرمه أن أطالع آخر ما كتب على جهاز الكومبيوتر، طالعني الكثير من الترجمات والتراجم والدراسات النقدية، كلها كانت غير مكتملة [ كم تأثرت لدراسة لم يكملها عن روايتي “زمان الوصل”].
فسرت الأمر بأنه كان يخوض صراعًا مع الوقت القليل المتاح، فهو يكتب ما يسعفه به ذهنه، ثم تلح آلام المرض، فيتوقف عن الكتابة، ثم تراوده – بغياب الألم نسبيًا – أفكار موضوعات، ما يلبث أن يخلو لإحداها، لكن تأثيرات المرض تدهمه ثانية، فيضع القلم.
هذا هو – فى ظني – سر الكتابات الكثيرة، الناقصة، يتناول غالبيتها موضوعات مهمة، لكن تأثيرات المرض ظلت تفرض نفسها، فلم يكتمل إلا الأقل مما بدأ فى كتابته.
***
كانت آراء خالد عباس السياسية متوافقة إلى حد التماهي مع آراء المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد. وقد عرض لكتاب إدوارد ” تغطية الإسلام إعلاميًا، الذي يتناول المواقف الغربية المعاصرة الأمريكية، على الأخص تجاه عالم إسلامى، بدأت تتشكل تصورات بعينها حوله منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، دافعة به إلى بؤرة الاهتمام الغربى، غير أن صورته هى صورة العالم المزعج الذى يمثل معضلة للغرب، ويتمثل الدافع وراء ذلك فى عنصرين أساسيين، هما الفاتورة العالية التى يتحملها المواطن الغربى نتيجة ارتفاع أسعار النفط، ثم أحداث الثورة الإيرانية، ومسألة الرهائن الأمريكية التى أوجدت ما أطلق عليه فى الغرب ” عودة الإسلام “. أضف إلى ذلك الصحوة الإسلامية التى يسميها الغرب بالراديكالية, وقد زاد الأمر سوءًا إغفال الغرب الاتساع الجغرافى والتنوع السياسى للعالم الإسلامى، وخلطه بين الإسلام والتوجهات الغربية، فأصبح الإسلام مرادفاً للإرهاب وخطف الطائرات وتسميم إمدادات المياه، وتهديد الغرب، ونكران أسلوب حياته، وهذه كلها تفعل فعلها فى الوعى الغربى.
كانت النتيجة – كما يقول إدوارد سعيد – أن ازدادت أعداد الخبراء المتخصصين في شئون العالم الإسلامي زيادة لافتة للنظر، فإذا ما حدثت أزمة، استدعي هؤلاء الخبراء ليدلوا بدلوهم في البرامج الإخبارية والحوارية. واستوقفت خالد عباس رواية المفكر الفلسطينى عن المكالمات الكثيرة التى تلقاها عبر الهاتف من الصحف والقنوات الفضائية العالمية، ومن إعلاميين وصحفيين كبار، حيث أُلْصقت التهمة على الفور بالمسلمين، ارتكازًا إلى أنه مادام الكاتب ينتمى إلى الوطن العربى، أو – حسب التسمية المقحمة – الشرق الأوسط، فلابد أنه على علم بما لا يعلمه الآخرون، وهو ماأكده تفاقم الأوضاع بالسلب منذ صدور الطبعة الأولى من كتاب إدوار سعيد، حيث شوهت – بواسطة الإعلام الغربى، والأمريكى بخاصة – صورة الإسلام فى الغرب، من خلال المقالات والرسوم الكاريكاتيرية.
الصورة إذن حول الإسلام والمسلمين فى الغرب – حسب تقدير إدوار سعيد – معقدة، زادها تعقيدًا صورة العالم الإسلامى نفسه، التي تعانى الكثير من السلبيات، كتردي مستوى المعيشة، وهيمنة الديكتاتوريات الحاكمة، وغياب الديمقراطية، وغيرها.
ويقول إدوارد سعيد أنه لم يستطع وضع يده علي أية فترة في التاريخ الأوروبي أو الأمريكي منذ القرون الوسطى تمت فيها مناقشة الإسلام أو الإشارة إليه خارج إطار العاطفة والهوي والمصلحة السياسية، فمن النادر مثلاً رؤية مقالات تستند إلي معلومات حول الثقافة الإسلامية في ” النيويورك ريفيو ” الخاصة بعروض الكتب إلا إذا ارتبط ذلك بعمل من أعمال العنف، كما حدث وقت تفجير مبني التجارة العالمية عام 1993، فإلي الإسلام فقط ينسب العنف الديني، ولذلك فإن المجازر التي تعرض لها البوسنيون لم تنسب إلي المسيحية مما يدل علي أحادية الموقف العدائي تجاه الإسلام لا غير. إذ لم يتحرك الغرب ولا الولايات المتحدة الأمريكية إلا بعد ارتكاب الصرب أفظع المجازر ضد مسلمي البوسنة والهرسك، ويدخل في هذا النطاق ما قامت به روسيا من محاولات لقمع مسلمي جمهورية الشيشان عام 1994، فكان نتيجة ذلك أن تعمقت القطبية وأرجئت فرصة الحوار بين الثقافات .
ومع أن المسيحية واليهودية تشهدان صحوة، فإن الإسلام وحده يختص بذلك في الكتابات الغربية من خلال بضعة ” اكليشيهات ” تنم إما عن عدائية، أو عن جهل ، ذلك أنه لا يمكن أن يطلق بشكل قاطع في الولايات المتحدة الأمريكية علي أية ديانة أو جماعة فكرية أو عقيدية، إنها تمثل تهديداً للحضارة الغربية سوى علي الإسلام. هناك إذن ما يشبه الإجماع علي أن يكون ” الإسلام ” كبش فداء لكل مالا يرغب فيه الغرب من أنماط جديدة للعالم سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، فالإسلام بالنسبة إلي اليمينين يمثل بربرية، وبالنسبة إلي اليساريين عبارة عن ثيوقراطية العصور الوسطي، وبالنسبة إلي أصحاب الاتجاه الوسط أمر يتسم بغرابة مقيتة .
خلاصة القول هي أن سوء الطرح والتشويه المتعمد في تصوير الإسلام اليوم لا ينبئ عن رغبة حقيقية لدي الغرب في فهم هذا الدين، أو الاقتراب منه.
***
مات خالد عباس عقب معاناة طويلة مع المرض.
رجوت ناقداً صديقاً يشرف على صفحة أدبية أن يبعث لى مقالة نقدية كان قد وعد خالد عباس – قبل عام – بنشرها. ويبدو أن الإشفاق، أو التأثر، مما جرى، أملى على الناقد الصديق أن ينشر المقالة المؤجلة، بعد أن غاب خالد عباس عن عالمنا.
هذه المقالة التى حققت أمنية – فات أوان تحقيقها – لناقد مثقف وجاد وموضوعى، تذكرنى – مع اختلاف الظرف – باحتجاج برناردشو على لجنة جائزة نوبل؛ حين منحته الجائزة بعد أن تحققت له مكانته.
حصل خالد عباس على فرصة النشر، بعد أن رحل!