»»
بقلم ✍️ د.عصام محمد عبدالقادر
(أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس كلية التربية بنين بالقاهرة .جامعة الأزهر)
يُعرف التنمر الرقمي بأنه سلوك عدواني متكرر من فرد أو مجموعة تجاه فرد لا يمتلك مقومات الدفاع عن نفسه، عبر صفحات التواصل الاجتماعي أو ما يرد إليه من الرسائل والصور والوسائط الرقمية أو مواقع الويب، أو الملفات الشخصية المزيفة المحرجة من خلال التطبيقات المختلفة عبر هاتفه المحمول أو جهازه الرقمي، وهذا السلوك يستهدف الإحراج، أو التشهير، أو الانتقام، أو التقليل من الشأن والعمل، أو التحرش، أو الافتراء، والبهتان، أو الابتزاز، أو الهجوم غير المبرر، أو الإيذاء، أو الإذلال، أو الإساءة، أو الاستمتاع، أو ممارسة السلطة على هذا الفرد، أو الشائعات المغرضة.
ويُعد التنمر الرقمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي إحدى الجرائم الإلكترونية التي يجب التصدي لها بالعديد من الآليات والتشريعات؛ حيث يتبع القلة من مستخدمي الإنترنت أساليب غير أخلاقية ومخالفة للقوانين في ممارسة أنشطة غير سوية تستهدف أشخاصًا بعينها، ومن ثم يؤدي ذلك لأضرار متنوعة قد تصل بالفرد المُتنمر عليه إلى أنه يعاني من أعراض الاكتئاب، والشعور بالقلق والخوف، وفقد الثقة بالنفس والآخرين، وفقدان الاستقرار والأمان، وانخفاض تقدير الذات، وبعض مظاهر التوتر، والعنف وتوالد العدوانية، وضعف الأداء العام، والاختناق العاطفي، وضعف المشاركة الاجتماعية، وقد يصل إلى الشعور بالعزلة أو تعاطي المواد المخدرة وإيذاء النفس أو الانتحار.
وتأخذ مشكلة التنمر الرقمي الطابع الشخصي مرتبطًا بالعوامل الاجتماعية والتربوية للشخص المُتنمر؛ إذ ينبغي مواجهتها والعمل على الحد من آثارها المدمرة على مستوى الفرد والمجتمع، خاصة وأن المُتنمر يستغل ضعف وخطأ الآخر، بالإضافة لسلبية اهتمام الأهل والأصدقاء بالشخص المتنمر عليه، وما يواجهه من مشكلات في العالم الافتراضي والواقعي، بينما يتفاعل الآخرون ممن هم متواجدون على مواقع التواصل الاجتماعي مع المُتنمر الذي يفلت من العقاب لقلة توافر الأدلة أو التزييف بواسطة استخدام حسابات وهمية.
وفي واقع الأمر أصبح توظيف واستخدام التقنيات الرقمية للفرد جزءا لا ينفصل عن ممارساته اليومية كي يكتسب خبرة أو يطلع على مجريات الأحداث، أو يشارك في الفعاليات المتنوعة عبر منصات التواصل الاجتماعي على المستوى الخاص والعام، كما أن توافر التقنيات الرقمية مع الجميع أحدث ثورة في التواصل منقطعة النظير يصعب ضبطها، وفي إطار هذا الزخم من التقارب والتداخل والتفاعل الرقمي بين الأفراد والمجموعات عبر شبكة الإنترنت بات من الأهمية ضبط العلاقات بصورة تضمن السلامة للجميع.
وتقتضي المواجهة الإجرائية بعض الممارسات الجادة لمواجهة التنمر الرقمي؛ تبدأ باحتواء الفرد المتنمر عليه وإشعاره بالثقة والأمن والاهتمام، ما يعطيه القدرة على التعبير عما يتردد داخله من مخاوف واضطرابات وتهديدات، تلقاها من المتنمر، دون خوف أو قيود، وهذه أول بوادر الإيجابية، ويُسمى هذا بتنقية الوجدان؛ ليستبصر من وقع فيه من خطأ جراء تعاملاته الرقمية مع الطرف الآخر؛ بغية الوقوف على حل لها بعد تفكير عميق.
وريثما وصل المُتنمر به لمرحلة التفكير في مشكلته، تبدأ المواجهة الصريحة أو المعلنة؛ بغية تغيير موقفه والتصدي لمشكلته، مستخدما مهارات اجتماعية راقية، تتمثل في تحمل المسئولية والاندماج الاجتماعي مع الأسرة والأصدقاء وتدعيم العلاقات والمشاركة الفاعلة والتواصل الإيجابي، ومن ثم يصل الفرد المُتنمر به إلى وضعية صريحة لتفسير ما مر به، وهذه هي مرحلة الإدراك التام للموقف، بل وتبسيطه، وعليه يتحول سلوكه السلبي لسلوك المبادأة، ويتغير نمط تفكيره بعد العديد من المناقشات والحوارات الثرية معه؛ ليصل لاستراتيجية المواجهة والتخطيط لمساره المستقبلي؛ ليكمل حياته العملية والعلمية بصورتها الطبيعية، وينقذ نفسه من مخاطر التنمر الرقمي.
وهناك استراتيجية أخرى يواجه بها المُتنمر به الموقف الذي يواجهه، قائمة على التجاهل، مقرونة بالمواجهة القوية للشخص المُتنمر تصل لحد التهديد واستخدام صلاحيات الحظر والإبلاغ عنه، ومن ثم ينبغي أن يكون المُتنمر به متمكنًا من مهارات تأمين الخصوصية؛ ليحجم من تطفل الآخرين حيال ما يقوم به من ممارسات عبر العالم الافتراضي، بالإضافة إلى معرفته بالقوانين والتشريعات التي تمنع التنمر؛ ليواجه بها الشخص الذي يمارس التنمر ويرهبه ويهدده بشكل صريح، وأنه سيلجأ للجهات المختصة على الفور.
وقد اضطلعت المؤسسات التربوية والاجتماعية بمسئوليتها حيال ظاهرة التنمر الرقمي؛ حيث تسعى لإكساب منتسبيها مهارات عديدة تساعد في صقل شخصيتهم؛ ليصبحوا قادرين على صناعة واتخاذ القرار في الوقت المناسب، ويمتلكوا مرونة وقدرة على التصرف في المواقف المحرجة أو الطارئة، بالإضافة إلى مهارات حل المشكلات، وأن يتحلوا بمهارات الصبر والتواصل مع ذويهم والآخرين، وأن يصبحوا واثقين في أنفسهم مقدرين لذاتهم، ملتزمين بالنسق القيمي لمجتمعهم وعقيدتهم؛ بالإضافة لامتلاكهم المهارات التقنية؛ ليصبحوا مسيطرين على ما لديهم من معلومات، وحامييين لخصوصيتهم، ناهيك عن ممارستهم لأنماط التفكير العليا.
ومن المسئوليات المباشرة التي تقع على عاتق المؤسسات التربوية بصفة خاصة، تدريب منتسبيها بكافة المراحل الدراسية على مهارات واستراتيجيات الأمن السيبراني؛ ليصبح الفرد قادرًا على التعامل مع الثورة الرقمية وما نتج عنها من تطبيقات عديدة مثل الذكاء الاصطناعي. سبيلها إلى ذلك أنشطة ممنهجة تقوم فلسفتها على تعضيد معايير المواطنة الرقمية وتستل من مقررات تساعد الفرد على الاستخدام والتوظيف الأمثل والآمن لشبكة المعلومات الدولية وللتطبيقات الرقمية؛ بالإضافة إلى التوعية والمتابعة والإرشاد المستمر الذي يسهم في تعزيز الفرد ليحقق أقصى درجات الأمان.
كما تتحمل الأسرة نصيبًا من مسئولية التوعية والإرشاد والمتابعة لأبنائها عند استخدام وتوظيف المستحدثات الرقمية عبر الإنترنت؛ حيث مساعدتهم على تأمين معلوماتهم الشخصية وما يمتلكون من بيانات خاصة بهم، وكذلك توجيههم للاستفادة من المواقع الرسمية التي تطلقها مؤسسات الدولة بغرض استقاء الأخبار الصحيحة، ومن ثم تنمية مقدرتهم على استبعاد المزيف من الأخبار والشائعات التي لا حصر لها.
ويوفر الأمن السيبراني العديد من الاستراتيجيات التي يمكن للأسرة تفعيلها؛ لتؤمن أبناءها من مخاطر التنمر الرقمي، وكذلك من الهجمات الرقمية؛ حيث يمكن صد الرسائل وتجنب استقبالها، أو حذف الرسائل التي تم استقبالها، أو التجاهل التام للرسائل، أو تفعيل خاصية الحظر للأشخاص المتنمرين، أو إعادة ضبط الخصائص والخصوصية لتصبح مأمونة، أو استبدال الحساب بآخر جديد، أو إبلاغ تقرير إلى القائمين على التطبيق أو الموقع، أو التصدي المباشر للمتنمرين وتهديدهم، أو إبلاغ الشرطة، أو الانسحاب المؤقت من مواقع التواصل الاجتماعي، أو إلغاء الحساب نهائيًا، وكل ما يذكر يمكن استخدام المناسب منه للحد من الآثار المترتبة جراء التنمر، بما يساعد في تقوية الفرد ليعدل من سلوكه، وبما يوقف السلوك غير السوي من الشخص الذي يمارس التنمر الرقمي.
ولا تترك الساحة منفتحة لمن يقومون بالتنمر، بل ينبغي تتبعهم والوقوف على أسباب ممارساتهم غير الصحيحة، والعمل على تقديم النصح لهم، أو إخضاعهم لبرامج علاجية، أو استخدام إحدى استراتيجيات التهديد ضدهم عدا العنف الذي يؤدي لآثار سلبية تزيد من ممارسة السلوكيات السلبية والإصرار عليها، ومن ثم تشترك المؤسسات التربوية والاجتماعية والمعنية بحماية المواطن في إطار الحد من سلوكيات الذين يقومون بالتنمر بصورة إجرائية تحقق المُناخ الآمن لمستخدمي الشبكة الدولية للمعلومات وتطبيقاتها، حتى تحدث الاستفادة المرجوة منها.
وننوه إلى ضرورة الاهتمام بتعضيد ماهية الأمن الفكري لأبنائنا لنصون عليهم نعمة العقل والتدبر فيما يدور حولنا من مجريات، ولنصوب كل معتقد يؤدي لسلوك لا يتناسب مع النسق القيمي للمجتمع المصري؛ فالحب والود والترابط والتواصل الفاعل الإيجابي القائم على الاحترام تلكما بنيان النسيج المجتمعي وبؤرة تآلفه، والحقيقة أن مؤسسات الدولة الأمنية لا تأل جهدًا في العمل على تحقيق غايات الأمن الفكري.
حفظ الله بلادنا وقيادتنا السياسية وأبناءنا وشعب مصر العظيم وألهمنا الرشد والصواب ما حيينا.