دائما وأبدا فإن أكبر معوق للنشاط الثقافي عموماً ، والمسرحي بشكل خاص ، في قصور الثقافة ،هو الإدارات المالية التي لاتعدم موظفين لديهم حساسية خاصة تجاه كلمة ثقافة، ويتحسسون مسدساتهم كلما سمعوها، وبعضهم يتفنن في وضع العراقيل لتعطيل هذا النشاط ، وياحبذا لو تم إلغاؤه ،فهو المراد من رب العباد.. إحنا أولى بالفلوس دي.. هكذا يقول لنفسه، مع إنه لن يحصل عليها.
التعميم خاطئ بالطبع ، فهناك كثير من الموظفين في الإدارات المالية يدركون جيدا طبيعة وظائفهم ، ويعلمون أن عملهم مرتبط أساسا بوجود نشاط ثقافي. معنى عدم وجود نشاط ثقافي ، وهو الدور الأساسي للهيئة ، أن يبحث الإداريون عن عمل آخر خارج الهيئة.. لكن هناك فئة، حتى لو كانت قليلة ، لاتدرك ذلك ، بل إنها ترى في الإنفاق على النشاط الثقافي ظلما لها ، وتعتقد أنها أولى بهذه الأموال… منطق غريب جدآ..موظف يعمل في مؤسسة مهمتها مثلاً زراعة الأشجار ، في حين أنه لا يحب اللون الأخضر، ولا يؤمن بضرورة وجود الشجر، ويسعى جاهدا لوقف زراعته أو اقتلاعه من جذوره إذا زرعوه في غفلة منه.. على أي شيء يتقاضى أجره إذن اذا توقفت مؤسسته عن القيام بالمهمة التي أنشئت من أجلها ؟
مؤخراً فوجئ المسرحيون المتعاملون مع إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد بمنشور موجه من المسئول عن الوحدة المالية بالإقليم ، بمنع التعامل مع أي ممثل أو محاضر أو كاتب إلا إذا كان مسجلاً في منظومة الفاتورة الإلكترونية ، وهي سابقة لم تحدث في أي اقليم آخر، وكأن هذا الإقليم قد أعلن استقلاله عن الهيئة، بل وعن الوزارة كلها.
معروف أن الممثل في عروض الأقاليم يتقاضى في العرض حوالي 800جنيه إذا كان فئة اولى، وبعضهم يتقاضى 500جنيه،هذا قبل خصم الضرائب، ومعروف أيضا أن الاشتراك في منظومة الفاتورة الإلكترونية عن طريق أي شركة تصل تكلفته إلى حوالي 450 جنيهاً في العام…كيف يدفع 450جنيها حتى يحصل على 700 أو 400جنيه… النتيجة أنه سينصرف عن المسرح، وربما لعن اليوم الذي عرفه فيه، وأطلق لحيته وكفر المجتمع.
الأمر لم يتوقف على الممثلين لكنه تجاوزه إلى جميع المتعاملين من كتاب ونقاد وشعراء ، علما بأن اجر المحاضرة أو الندوة أو الأمسية الشعرية لايتجاوز 150جنيها قبل الضرائب التي تخصم من المنبع…من المجنون الذي ينضم إلى المنظومة حتى يحصل على هذه الملاليم.
الحاصل أن مثل هذا القرار، غير المسئول، سيصرف الجميع عن المشاركة في أي نشاط بفروع الإقليم… يذهب المسرحيون إلى الجحيم ومعهم أيضا الشعراء والكتاب والنقاد حتى ترتاح نفسية مصدر القرار وهو يرى مواقع الإقليم خاوية على عروشها.
لاأحد بالتاكيد ضد حصول الدولة على حقها من الضرائب ، ولا أحد ضد أي إجراء يحقق العدالة الضريبية ، ولكن هناك حالات خاصة ، يصعب معها تطبيق مثل هذا القرار ، لا الممثل ولا الشاعر ولا الناقد يحصل مثلاً على آلاف الجنيهات نظير مشاركته في أنشطة الهيئة ، ثم إن هذه المكافآت الهزيلة لاتغري أحدا بالتعامل مع الهيئة أو مؤسسات الثقافة عموماً..الناس تعمل شبه متطوعة، سواء لإشباع هواياتهم ، أو لإيمانهم بأن عليهم دورا يجب القيام به..وبالتالي تصبح مطالبتهم بالفاتورة الإلكترونية ضربا من العبث أو الجنون، الذي يحتاج إلى عاقل يوقفه قبل أن يتم تدمير النشاط في الإقليم.
ياعالم ..هذه مجرد مكافآت بسيطة ، يحصل عليها الناس مرة أو مرتين في السنة ،والعمل الثقافي شبه تطوعي ،فلماذا كل هذه التعقيدات..ثم ماهي السلعة التي يبيعها الممثل أو الشاعر أو المحاضر حتى نلزمه بالفاتورة الإلكترونية…هل هو محل بقالة مثلاً يبيع شاي وسكر وفاصوليا ناشفة ومرقة دجاج حتى نطالبه بفاتورة إلكترونية.. إنكم بذلك تتعمدون هدم النشاط الثقافي..وتتعمدون، كذلك، نسف جهود الدولة في التنمية ونشر الاستنارة ومكافحة الإرهاب…بل إن هذه الممارسات هي الإرهاب بعينه…ولاحظ أننا نتحدث عن إقليم يضم محافظات فقيرة للغاية مثل الفيوم وبني سويف…ماالذي نريده بالضبط؟
على وزيرة الثقافة د. نيفين الكيلاني، ورئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة عمرو البسيوني، التدخل فوراً لوقف هذا العبث….مافيش عاقل يمكن أن يفكر بهذه الطريقة… وحتى إذا كان هناك قانون أو قرار ملزم من وزارة المالية في هذا الشأن ، يحب التدخل لدى وزير المالية لإلغائه.. وإن كنت اعتقد أن مايحدث من موظفي الماليات بقصور الثقافة مجرد تفسير خاطئ ، أو متعسف، أو مغرض ، للقانون…عيب عليكم والله.. الناس مش ناقصة عقد نفسية..الناس فيها إللي مكفيها.