قالت : حتما سيتوقف القطار ، وراحت تنظر فى مرآتها ، تتحسس ملامح وجهها ، لم يزل خلف ستائر نضارته ، تنهدت بعدما سكنت عينيها دمعة .
راحت تحدق فى اللاشئ ، تتراءى لها على البعد أطياف تغازل حلمها ، وتداعب أطيار مخيلتها
القطار يتهادى من بعيد ، ولأول مرة ..
المرآة لا تزال فى يدها ، رفعتها ثانية ، تتطلع وجهها ، انعكس فى مخيلتها ضوء صادف وجهى ، صهرنى ، احتوتنى ، أحسست بتخلقى داخلها ، تثرثر ، كأنها تحدثنى ، ثم راحت تدلك جسدها فى رفق .
* * *
فى عينيها ألمح وجوهاً ملثمة ، تختفى معالمها عنى تماماً ، تحاول هى استجماع معالم الوجوه ، أصيبت بالرجفة ، وأشاحت بوجهها بعيداً ، كنت أنا الآخر قد تعبت من ملاحقة عينيها ، فنمت .
فى عينيها رأيت حركة القطار عكسية .. تقف على حافة المحطة ، بين أعواد الغاب والبوص .. مضفرة الشعر، تحركها أهواء الطفولة، تمرح كفراشة فى فضاءٍ رحب ، ترتسم معالم أنوثتها شيئاً فشيئاً .
رأيتها تفلت من أحدهم ، عندما كانت تتوارى خلف أعواد الغاب .. رأيت …. أدركت خطورة موقفها ، أعطت ظهرها للقطار .. وبمرور الوقت عادت تنتظره متوجسة ..
الكلمات تنطلق مخترقة خواء القرية ، تمزق فى عنف ثوبها الملفوف حول جسدها ..لم تهتم ، بينما تحاول رسم ابتسامة على وجهها طالما استعذبوها .آه .. أشعر بها تخترق جدار غرفتى ، تؤرق مضجعى .. أسمع تلك المرأة غليظة الصوت ، تنهرها ، تصر على معرفة كل شئ .. تحاول لكمى ما استطاعت ، أتفادى ضرباتها واضعاً يدى فوق رأسى ، متكوراً على نفسى ، رغم كل ذلك .. أشعر بالوجع يتسرب إلى جسدى الرخو ..ماتلبث أن تتوقف , مأخوذة بالحنين إلى فتاتها .. تنهنه فى ألم .. تمسح عن جسدها آلام القسوة قائلة : لن يرحمنا الناس .
تعاود الكرّة, يغلبها التعب, يأخذها الحنين, تَجِد وتحزن .والجسم الأبيض البض تحول إلى قطعة زرقاء , بدا هزيلاً .. لم تنبث بكلمة , وأنا لازلت متشبثاً بالبقاء .
* * *
فى المساء غافلت القرية, ألقت بنفسها بين أعواد البوص , والظلمة تغزو أرجاء المحطة إلا من لمبة وحيدة , تحاول ما استطاعت , شعرت بقدرة اللمبة على تبديد الظلام , فكلما اشتد الحصار حولها كلما بدا ضوؤها ..
قالت متنهدة : ياه .. هل أعجز عن أن أكون مثل هذه اللمبة ؟ كانت الأفكار تغزوها, والكلمات تصارعها .. والأمل يطل ويخبو , وبينما هى كذلك , تداعب جدران حجرتى, أشعر بالأمن
* * *
العاشرة موعدنا , هكذا قالت , بعدها ستغادر القرية , من أجلك أنت .. ياقطعة منى .. ياقطعة منه .. اقدر ظروفه رسالته لى تؤكد مجيئه .. لن يخلف أبداً موعداً .. نعم سيأتى .. ثم متحسسة جدارى .. ستخرج إلى القرية تتحداهم .. هم لا يعرفونه مثلما أعرفه .. لقد أخبرنى أنه معى شعر بذاته , أحس بطعم الحياة , كنت نهره الدافق , .. ثم متوجسة .. فهل يكون حصنى المنيع ؟
ألقت بالكلمات من فضاء عقلها المضطرب .. وراحت تترقب الضوء القادم من بعيد ..
* * *
صوت القطار يصفع صمت الظلام , وضوءه يمزق رداءه الثقيل لمعت عيناها بالفرحة , وارتسمت على شفتيها ابتسامة حذرة ..
يتهادى القطار أمام عينيها , ومحاولات دفعه مستمرة , الوجوه الملثمة تتضح شيئاً فشيئًا , والقطار يسير
المشاعل من خلفها تبدِّد حلكة الليل , والفضاء يضج بالصراخ والصخب ، والريح تعصف بالمكان , لوَّح لها السائق بشئ فى يده ..
يمكنها الصعود , فالقطار يسير بطيئاً , بطيئاً ..
لمعت الفرحة فى عينيها , قفزت داخله , راحت تقرأ الورقة بسرعة , شعرت بذبذبات تضرب جسدها .. كادت تتهاوى .. تماسكت
كنت أنا الآخر قد كرهت البقاء , قرَّرت الثورة على الخوف .. ربتت على جسدى كى أتمهل .. لم تستطع الصمود أمام ثورتى .. راحت فى غيبوبة عميقة ..
خرجت إلى الفضاء صارخاً , تنهدت بعدما أفاقت .. أخرجت لفافة من صدرها .. خلعت عباءتها , لفتنى بها , ربطت باللفافة على جسدى .. أحسست فى عينيها شيئاً .. داعبتها بيدى, ابتسمت وفجأةً .. ألقت بنفسها من القطار .