»»
بقلم ✍️ أ.د عصام محمد عبدالقادر
(أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس – كلية التربية بنين بالقاهرة- جامعة الأزهر)
يُعرف التعليم متعدد الثقافات بأنه نمط تعليمي يراعي خصائص المجتمع المتعلم ويصون حقوقه؛ حيث يحرص على صقل القواعد المشتركة بينهم ويقدم لهم الاستراتيجيات والطرائق والمحتوى والأنشطة التي تتسق مع قيمهم الثقافية وتحترم ما يتباينون حوله من جوانب سياسية أو عقدية أو اجتماعية، وتؤكد في وجدانهم استيعاب وفهم وقبول الآخر؛ ليتحقق التسامح والتعايش السلمي بين تنوعاتهم الثقافية، وتنمو سُبل الشراكة بين الأفراد والمجتمعات؛ لتذوب الفوارق وتتقارب آليات الإعمار والتقدم على المستوى العالمي.
وحري بالذكر أن الثقافة تتضمن في مكنونها النسق القيمي للمجتمع وما يحمله من معتقد ومعرفة وفن، وما يمارسه من عادات ترتبط بمعيشته، وما يسعى إلى تحقيقه وفق ما يمتلكه من فكر واستشراف لمستقبله، ومن ثم تعد الثقافة معيارا للحكم على مجريات الأحداث، ومؤشرا لصورة الهوية القومية التي تتوارثها الأجيال؛ لذا باتت الثقافة موجهة للابتكار والنهضة والتنمية المستدامة، وسلاحا ضد ما يواجه المجتمع من مخاطر بمختلف تنوعاتها، ومقوما رئيسا للحرية المسئولة بأشكالها المختلفة.
وقد أضحت التعددية الثقافية في مجملها أمرًا ملحًا على المستويين المحلي والعالمي؛ حيث أصبح التباين الثقافي في الوطن الواحد واقعًا معاشًا يجب الاهتمام به وتهيئة وإعداد الأجيال له؛ لتصبح قادرة على استيعاب الآخر والتعايش معه وعقد الشراكات التي تُسهم في تنمية ونهضة الأوطان؛ فلا مجال للصدام أو الخلاف أو المواجهة غير المبررة، ومن ثم فإن امتلاك الفرد مهارات التعامل مع الثقافات الأخرى يُعد سفينة النجاة من سياج الطائفية إلى بر التعاون والمشاركة القائمة على مصالح الدولة العليا في مجالاتها المختلفة.
وتقوم فلسفة التعليم متعدد الثقافات على أن اختلاف البشر وتنوعهم يُعد طبيعة كونية ينبغي تقبلها واستيعابها، وهذا ما يؤكد الحق في الحياة وفق منظور المواطنة بكامل مفرداتها؛ لتشمل الهويات الثقافية المختلفة، ومن ثم تحرص المؤسسات التعليمية على تحقيق ماهية التربية من أجل العدالة؛ ليتأكد صورة المجتمع الديمقراطي بداخلها عبر أنشطتها التعليمية المتنوعة التي تستوعب وتحترم التباين وتراعي الخصائص الثقافية المختلفة.
وثمة ضرورة من إفادة التعليم المصري من فلسفات التعليم على المستوى الإقليمي والعالمي في ضوء النسق الثقافي للدولة الذي يضمن التأكيد على القومية والانتماء ويعمل على تعضيد قيم المجتمع، ويسهم في ترسيخ المعتقدات النبيلة التي يؤمن بها المجتمع، وتتمثل أوجه الإفادة في تحديث الرؤى التي تنسدل منها تنمية المعرفة التي تؤهل الفرد لسوق العمل في ظل تغيراته المتسارعة بسبب التقنية هائلة التطور، وعبر نمط التعليم متعدد الثقافات يتضح أنه يحقق تكافؤ الفرص التعليمية التي تضمن شيوع الأسلوب الديمقراطي في التعليم الذي يقوم على العدالة في إجراءاته بين المتعلمين، ومن ثم يُعد بديلًا عن الممارسة التقليدية بالبيئة التعليمية.
وهناك قضية تُعد الأكثر تناولًا في النظام التعليمي متمثلة في التربية على مبادئ الديمقراطية التي لا تقبل التجزئة في مكوناتها؛ فهناك اعتبارات تقوم عليها داخل المؤسسات التعليمية وخارجها ينبغي أن يعيها الفرد ويمارسها بصورة تتسم بالمسئولية والمحاسبية؛ لنضمن تجنب الانزلاق لإحداث فوضى أو تعريض الآخرين لضرر لا يستحقونه؛ فكما لك حق التخطيط والتنفيذ يجب أن يخضع ذلك مجتمعًا للتقويم المستمر بما يفرز نقاط القوة ليتم إثرائها ونقاط الضعف والقصور ليتم معالجتها، وتلك الديمقراطية تقوم على حرية في الأداء مقابل محاسبية للنتائج، ومن ثم لا نأخذ بقشور الديمقراطية من الثقافات الأخرى ونترك بواطنها التي تحفظ على البلاد استقرارها وأمنها وأمانها وتقدمها في مجالاتها المختلفة.
وتتعاظم الاستفادة من التعليم متعدد الثقافات في تنمية البنى الاقتصادية التي ترتبط بالمعرفة والمهارة والوعي بتطويرها وفق التطور التقني؛ فلا يجوز الثبات على ثقافة أحادية تقف عند مستوى محدود من التنمية الاقتصادية؛ لذا تكمن الاستفادة الجوهرية في سدّ الفجوة بين التطور المستمر والثبات النسبي للمجال الاقتصادي الذي يساعد في توفير جودة الحياة للمجتمع، ويتطلب ذلك استيعاب الآخر في ظل فلسفة التعليم متعدد الثقافات باعتباره مشاركًا في التنمية بالفكر أو الممارسة، ويتفق ذلك مع ما تفعله الدول المتقدمة في تعاملها الإجرائي مع المهاجرين إليها؛ لتتحقق الاستفادة التامة منهم.
ويُشكل الحفاظ على اللغة القومية أهمية كبرى للدولة، ولا يتعارض ذلك مع نمط التعليم متعدد الثقافات؛ إذ تهتم المؤسسات التعليمية الرسمية وغير الرسمية باللغة الأولى للدولة وتشدد على إتقانها، كما تحفز على اكتساب أكثر من لغة أجنبية في الوقت ذاته، مما يعمق الثقافات المرتبطة بها، وتجعل المتعلم على دراية بمفرداتها، ويحقق ذلك نموًا فكريًا في المجالات التشريعية والاقتصادية، والاجتماعية، والقيمية، والسياسية، والثقافية.
وتضرب الأسرة المصرية أروع الأمثلة في تعايشها الديمقراطي مع بعضها البعض وفق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة؛ لتثبت للتاريخ وعبر الأزمان بأن وحدة اللغة والهوية تشكلان الخصوصية الثقافية المتفردة، بغض النظر عن التباين العقدي بين المصريين؛ فهناك اتفاق على التسامح والتفاهم بين الثقافي والشراكة مع الآخر، وهو ما هيأ الدولة المصرية لأن تستوعب الثقافات المختلفة عبر مجالات التعاون والعمل والتبادل الفكري والثقافي، وترجمتها الإجرائية بتبني نمط التعليم متعدد الثقافات.
وفي إطار ما يستهدفه التعليم متعدد الثقافات يُلاحظ العمل على الحد من التمييز بين المتعلمين؛ إذ يشبع احتياجاتهم التعليمية والثقافية، ومن ثم يُعد تعليمًا رئيسًا لأهميته وقبوله بين أطياف المجتمع وشرائحه، وقد ترجع ضروريته أيضا لتكامله مع متطلبات سوق العمل المحلي والعالمي؛ لذا تحرص المؤسسات التعليمية من خلال المنهج التعليمي وثيق الصلة بالثقافات المتنوعة على الحد من التفاوت بين الطلاب ذوي الخلفيات الثقافية المتنوعة؛ لتمكنهم من اكتساب الخبرات اللازمة لتنشئتهم كمواطنين فاعلين ومتقبلين للتغيير الاجتماعي في صورته البناءة، بالإضافة إلى تكوين مشاعر إيجابية نحو الآخرين واحترامهم، ممن يختلفون معهم ثقافيًا.
وتحرص الدولة المصرية على تقديم برامج تعليمية تستوعب الثقافات المتعددة، وتساعد في تلبية الاحتياجات المتنوعة التعليمية منها والثقافية، وتعضد مفاهيم التعليم متعدد الثقافات من خلال المناهج التعليمية المرنة والتي تؤكد غاياتها التعليمية على الانفتاح الثقافي واحترام وتقدير الثقافات المتباينة، وتحث على التبادل الخبراتي بتنوعاته الدراسية والعملية والحياتية، بما يؤدي إلى النفع العام للبشر في شتى مجالات الحياة، وبما يستوعب ما تتطلع إليه البشر من آمال وطموحات ترقى لمستوى الرضا المجتمعي العالمي.
ولضمان فعالية التعليم متعدد الثقافات كان لزامًا على أصحاب الرسالة السامية الحرص على تعضيد العدالة التربوية في البيئة التعليمية بما يسهم في تنمية الوعي بالتنوع الثقافي. ويشكل المناخ التعليمي حجر الزاوية في تكوين الاتجاهات الموجبة نحو التباين الثقافي وضرورته وما ينتج عنه من ثمار على المستوى التعليمي والحياتي؛ ليؤكد في الأذهان أهمية التعاون والشراكة في إنجاز المهام التعليمية والوصول إلى سياق الفهم العميق، كما يساعد في توطيد العلاقات الاجتماعية خارج المؤسسة التعليمية لتتكون صداقات بناءة قائمة على الاستيعاب والتقبل ومن ثم فاعلية التواصل عبر وسائله المختلفة.
ويتوجب على إدارة المؤسسات التعليمية مراعاة التنوع الخبراتي لمنتسبيها من أصحاب الثقافات المختلفة؛ إذ ينبغي الوقوف عليها لتكوين مصادر وقواعد معرفية تتناسب معهم، ناهيك عن تطوير المناهج وما تشمله من عناصر رئيسة لتلبي الاحتياجات التعليمية والخصائص السيكولوجية المتغيرة لتلك الفئات؛ ليتحقق المستهدف من هذا النمط التعليمي المتميز في مكنونه.
وفق الرحمن قيادتنا السياسية لما فيه الخير وحفظ بلادنا ورفع رايتها عالية خفاقة.