»» بقلم ✍️ د.مها عبدالقادر
(أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر)
بات الاستثمار في رأس المال البشري لوقف نزيف هجرة العقول من القضايا ذات الطابع العالمي؛ حيث ارتبطت منذ القدم بتطور حياة الإنسان، وتطلعاته للترقي والبحث عما هو أفضل في مجالات اهتماماته المختلفة خاصة الفكرية والعلمية، ناهيك عن الطبيعة الإنسانية التي تحثهم على الانتقال من مكان لآخر بهدف البحث عن عوامل الأمن والأمان والاستقرار والرضا الوظيفي تلك التي توفر مقومات جودة الحياة، وهناك علاقة طردية موجبة بين الابتكار القائم على العلم وبين توافر مقومات الاستقرار والاستمرارية له نتيجة لجودة الحياة التي يستشعرها الفرد بعمله.
وباستقراء الأمر عبر المراحل التاريخية المختلفة لم يخل زمان ولا مكان من هجرة العلماء به، في كآفة المجالات والعلوم الدينية والدنيوية على السواء، وأن العوامل والأسباب قد تباينت من حقبة لأخرى وإن بقى التشابه رهن الملاحظة؛ فقد سعى الكثيرون إلى طلب جودة الحياة المرتبطة بالأمان والرعاية الفكرية والصحية والاجتماعية والتعليمية، مقابل ما يمتلكون من مهارات وكفاءات ومواهب بمجال عملهم مما يجعل الأمم المتقدمة والدول التي ترغب في اللحاق بركب التقدم، تتسابق من أجل استقطابهم والإفادة من خبراتهم وعلمهم؛ بهدف استثمارهم والاستفادة من هذه الخبرات لأحداث التنمية والتطور والنهضة.
وهناك تغيرات ساهمت في ازدياد هجرة العقول خارج أوطانها، ومنها التطور التقني والصناعي الذي حث على زيادة الطلب لمن يمتلكون المهارة، والكفاءة وسهولة الحصول على الأفراد ومعلوماتهم في عصر العولمة، الذي يسر لهم فرص العمل في الخارج للعديد من الوظائف بمجالاتها التي يصعب حصرها، ويعد ذلك استكمالاً لما ذكره التاريخ بشأن هجرة العقول وتعدد أسبابها؛ لذا تطلب ذلك من الدول المعنية بأمر الهجرة أن تعكف في بحث أوضاعها خشية ما تسببه تلك الهجرة في الإضرار بمصالحها الخاصة.
ويُسهم الاستثمار الأمثل للثروة البشرية في رقي وتقدم المجتمعات ويقلل من هجرة العقول المفكرة؛ إذ به يكتسب الفرد المقدرة على اكتشاف ذاته وما يمتلكه من مهارات وقدرات خاصة، تحقق له ولمجتمعه جودة الحياة من خلال إتاحة المزيد من الفرص والخيارات التي يستغلها بصورة إجرائية ووجود بيئة ملائمة وفرص متاحة للتطوير الشخصي والمهني وفرصًا أفضل للتعليم والعمل والتطور المهني، وهذا يسهم في تحسين جودة حياتهم.
لذا أصبح توفير وتحقيق جودة الحياة أساس للاستثمار في رأس المال البشري وجذب العقول بالمجتمع؛ وذلك يحتاج إلى توازن ومنهجية شاملة تعتمد على توفير الموارد والإمكانيات المناسبة وتطوير بيئات ملائمة للمواهب والكفاءات المحلية المختلفة والمتنوعة وجذبها والاحتفاظ بها من خلال توفير فرص تعليمية ومهنية متميزة وتشجيع الابتكار والريادة بالإضافة إلى العمل على تكامل العقول المهاجرة وتوفير فرص متساوية للجميع، بما في ذلك الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، وحقوق العمل، والملكية الفكرية، والعلمية.
وفي هذا الصدد حققت الدولة المصرية العديد من الأمور للاستثمار برأس المال البشري وللمحافظة على استقطاب وجذب العقول الماهرة الموهوبة أصحاب الكفاءة والمهارة؛ حيث وفرت نظامًا تعليميًا متقدمًا ومتطورًا يتيح فرصًا أفضل للحصول على تعليم عالي الجودة ويشمل التخصصات المتقدمة والمتطورة، وتوفير فرص عمل متميزة ووظائف ذات رواتب أعلى وظروف عمل أفضل وفرص للتطور المهني لجذب ذوي المواهب العالية.
فالاهتمام بالاستثمار في رأس المال البشري من خلال التعليم والبحث العلمي ودعمه لوجستياً من قبل مؤسسات الدولة وبعض الشراكات التمويلية، بات مطلباً ملحًا وتسعي الدولة جاهدة لتوفير متطلباته بما يسهم في تحقيق الهدف منه والمتمثل في توفير الرفاهية وتلبية الاحتياجات والتغلب على ما يستجد من مشكلات آنية ومستقبلية بمجالات العلم والمعرفة والمجتمع، ولا ينفك هذا عن الاهتمام بالعلماء والكفاءات العلمية أساس الانفتاح العلمي والإنتاج المعرفي، بتوفير رغد الحياة بما يسهم في مزيد من العطاء الفكري والإبداعي لأبحاثهم وابتكاراتهم، ويكسبهم تحقيق أهدافهم العامة والخاصة.
وما تقدمه الدولة من دعائم لمسار التعليم والبحث العلمي والاهتمام بإعداد العلماء والموهوبين؛ حيث تحُث المؤسسات التعليمية لإنشاء المعامل البحثية المتكاملة، وتنمية القدرات العلمية في تطوير المعرفة، وتطويع التقنيات للمشاركة في حل المشكلات المجتمعية وإحداث التنمية المستدامة، وتشجيع الشراكة بين المؤسسات التعليمية ومؤسسات الإنتاج والخدمات، بما يُسهم في ممارسة النشاط البحثي سواء داخل المؤسسة التعليمية أو المؤسسة الإنتاجية.
كما أهتمت الدولة بتطوير البنية الأساسية للمؤسسات التعليمية وإنتاجية البحث العلمي، والاهتمام بالجانب التقني والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي ومجالات تطبيقاته، فقد أصبح واقعًا معاشًا في سائر مفردات الحياة العلمية والعملية، كما تؤكد القيادة السياسية على ضرورة إنتاج المعرفة واستغلالها بصورة وظيفية؛ لتحقق نتاجًا يساعد في التنمية والرفاهية البشرية والمادية على حد سواء؛ فقد تضمن البحث العلمي كافة الأنشطة والممارسات الابتكارية التي تعمل على ثراء الرصيد المعرفي والذي بدوره يؤدي إلى إحداث استدامة للتنمية في شتى المجالات وعبر القطاعات بصورة متكاملة واستدامة جودة الحياة والرضا للأفراد.
كما تم تطوير منظومة البحث العلمي بالمؤسسات التعليمية وخاصة المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية؛ فقد وفرت مصادر المعلومات من خلال بنك المعرفة المصري والمكتبات المتطورة، وقواعد البيانات الرقمية والتشجيع علي التنافسية والابتكار وريادة الأعمال، عن طريق استخدام الأساليب العلمية لمواجهة التحديات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد حلول لها، مع تبني رؤى مستقبلية استباقية لمواجهة ما قد يطرأ من مشكلات وتحديات متوقعة ويحقق جودة الحياة التي تحرص الدولة عبر سياستها على توفيرها؛ حيث أضحى الاستقرار الاجتماعي والسياسي رهن رضى المواطن الذي يتطلع دومًا للرفاهية.
ونحن نحيا أزهى العصور حيث يتوفر ما يحلُم به الفرد علميا وعملياً؛ حيث أضحت المؤسسات البحثية بتنوعاتها تتبنى استراتيجية بحثية تتسق مع استراتيجية الدولة نحو التنمية المستدامة الشاملة، كما تعمل الدولة بكامل طاقتها على توفير الدعم اللوجستي لتعضيد التعليم والبحث العلمي، ولا يتوقف الاهتمام بتنمية الموارد البشرية التي تُعد من أهم أدوات نهضة المجتمع ورقيه، بل هناك تدريب مستمر ينتج عنه استفادة من الطاقات والقدرات التي يمتلكها الباحثون في شتى المجالات العلمية ويشجع علي العلم والابتكار والرضا المهني؛ ومن ثم تستفيد الدولة مما يمتلكه أصحاب العقول والكفاءات في تطوير القطاعات المختلفة على النحو المرتقب التي تنافس به العالم المفتوح والتغلب على فجوات سوق العمل بالعقول الموهوبة والكفاءات المعطاءة.
وقد وفرت الدولة نظامًا صحيًا متطورًا وفعالًا للوصول إلى الخدمات الصحية عالية الجودة مع رعاية صحية متقدمة ومتكاملة فهي لا تنفصل عن جودة الحياة وإتقان الفرد لعمله في ضوء ما يمتلكه من مهارات نوعية وتمتعه بصحة جيدة بدنياً ونفسياً؛ لينتج عن ذلك مستوى عال من الرضا والسعادة في حياته العملية والعلمية والمعيشية، ويدفعه لمزيد من تحقيق تطلعاته وغاياته، والنظرة المضيئة لمستقبله؛ حيث يصعب أن تتحقق جودة الحياة بعيدًا عن الصحة المتكاملة (البدنية، العقلية، الانفعالية)؛ ليتمكن من الصمود أمام ما يواجهه من ضغوط حياتية لا تنتهي ويستطيع العمل والإنتاج والإبداع.
وتسعى الدولة المصرية عبر مشروعاتها القومية في شتى المجالات أن تحقق جودة الحياة لدى المواطن؛ حيث توفر لهم مقومات الصحة الجسدية والنفسية، والبيئة النقية، والخدمات في مجالاتها المتعددة من تعليم وتعلم، ووسائل تنقل راقية، ووظائف تتناسب مع مهاراتهم وكفاءاتهم، وتحقق لهم العدالة الاجتماعية بسبل التكافل المتعددة التي تضمن لهم جودة الحياة، وتتيح لهم الممارسة الديمقراطية والحرية المسئولة، بما يحقق الانتماء والولاء وحب الوطن والمشاركة بقوة في جهود التنمية والنهضة والرفاهية.
حفظ الله دولتنا ورأس مالنا البشري ومقدراتنا وأمننا وأماننا، ووفق قيادتنا السياسية لاستكمال الإنجازات، والنهضة المستدامة ورفاهية الحياة.