»» بقلم ✍️ أ.د عصام محمد عبدالقادر
(أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس كلية التربية بنين بالقاهرة جامعة الأزهر)
تهتم دول العالم أجمع بالتعليم، إذ يعد قضية أمن قومي لا جدال حولها، ومصر من الدول التي أولت التعليم _ ومازالت_ اهتماماً بالغاً؛ رغم التحديات التي تواجهه العملية التعليمية؛ نتيجة للأوبئة المتعاقبة والمتغيرة، والتي تصيب بني البشر، ويهدف التعليم بتعديل سلوكيات المتعلمين، من خبرات يكتسبونها بصورة منظمة ومتسلسلة، وهذه الخبرات يصعب الفصل بينها في مراحل التعليم المختلفة؛ إذ تشكل المهارات التي يمتلكها المتعلم في نهاية المطاف، ومن ثم يصبح فاعلاً في مجتمعه، يشار إليه بأنه المواطن الصالح.
وقد اضطرت بعض دول العالم وأنظمتها التعليمية إلى التوقف عن ممارسة مهامها في ظل الأوبئة والجوائح والأزمات؛ لكن هذا التوقف يصعب أن يدوم في ظل جهود مضنية تسعى لبناء عقل المتعلم، وإكسابه العديد من الخبرات التعليمية في مجالات التعلم المختلفة؛ حيث يشكل المتعلم رأس المال البشري التي تعتمد عليه الدول في بناء حضارتها وتقدمها في عصر الثورات الصناعية المتعاقبة.
والمتابع لتطور توظيف التقنية الرقمية في المجال التعليمي، يلاحظ مساهمتها القوية في تطوير المناهج، وما يرتبط بها من أهداف ومحتوى ومعينات ومداخل تدرس وآليات تقويم وبيئة داعمة، وقد كان الرهان على طرائق توظيف تلك التقنية في تحقيق أهداف المناهج التعليمية؛ فقد حدث مزج وتوليف بينها وبين ما يدور في البيئة التعليمية التقليدية التي تجمع بين قطبي العملية التعليمية (المعلم _ المتعلم)، وتفاعلهما وجهاً لوجه لتحقيق أهداف العملية التعليمية، وبين ما يدور في البيئة الرقمية؛ حيث يقوم المتعلم ببعض الأداءات مستثمراً التقنية الرقمية المتاحة بشكل متزامن أو غير متزامن مع المعلم لإنجاز بعض الفروض التي تتعلق بأهداف العملية التعليمية، وبالطبع تباينت مصطلحات المزج بين التقنية الرقمية والتعليم السائد أو التقليدي؛ فوصفت بالتعليم المدمج أو الممزوج أو المزيج أو الخليط أو المولف أو الهجين.
وصاحب الرسالة السامية (المعلم _ الأستاذ) الذي يمتلك فنيات التدريس ومهاراته المتعددة يقوم بتوظيف التقنية الرقمية في استراتيجيات التدريس التي يتبناها في تحقيق أهداف المحتوى التعليمي، مع الأخذ في الاعتبار خصائص المتعلمين لإكسابهم الخبرات التعليمية المرتبطة بمحتوى التعلم، ويستمد هذا النمط من التعليم إجرائيته التطبيقية عبر توظيف تطبيقات تكنولوجيا المعلومات في تصميم مواقف تعليمية جديدة (مهام الأنشطة التعليمية)، ويمتد هذا التوظيف بالمزج بين التدريس داخل الفصول الدراسية والتدريس عبر الإنترنت، ويساعد ذلك حتماً على توظيف وتفعيل استراتيجيات التعلم النشط، والتعلم الفردي، واستراتيجيات التعلم المتمركز حول المتعلم.
وهناك العديد من المزايا التي تمخضت عن توظيف التقنية الرقمية بصورتها المقصودة في العملية التعليمية؛ حيث مرونة الوقت، وتوضيح الفكرة، وتوسيع حيز المشاركات بين المتعلمين، وسهولة تبادل الخبرات، وإمكانية تنويع مصادر التعلم من قبل كل من المعلم والمتعلم؛ بما يؤدي إلي التواصل الجيد والانتماء، وتفعيل العلاقات الاجتماعية بين المتعلمين مع بعضهم البعض، وبين معلمهم، ومراعاة القدرات الخاصة للمتعلمين، والفروق الفردية فيما بينهم، وخفض التكلفة وتقليل وقت التعلم، والحرص على توفير خبرات التعلم المتميزة، مع إمكانية تعددية المداخل والطرائق والمسارات والوسائط التعليمية التفاعلية.
بالإضافة إلى أن توظيف التقنية الرقمية يعمل على توافر فرص التعلم الذاتي، والتعاوني، وإدماجها مع التعلم النشط القائم على التقنيات الرقمية، كما تتوافر فرص للاطلاع على ثقافات متباينة، وتوجيه المتعلمين نحو البحث والاستقصاء، وسهولة تقديم التغذية الراجعة في الوقت المناسب، وتوفير التواصل المباشر مع المعلم، وكسر نظام الروتين اليومي للتغلب على ظاهرة الملل التي قد يعانى منها المتعلمون؛ حيث العمل على إثارة الدافعية والحاجة للتعلم، بما يسهم في إيجاد حالة من الرضا والقبول لدى المتعلمين والمعلمين على حد سواء، وبغض النظر عن مسمى نمط التعليم الذي يوظف التقنية في تحقيق أهدافه؛ فإن نجاحه في ذلك يتوقف على مقدرة صاحب الرسالة السامية في تصميم أنشطة تعليمية نوعية، وفق مهام محددة يؤديها المتعلم، في البيئة التعليمية المتاحة له.
وتساعد المنصات التعليمية في تحقيق أهداف التعليم المصري بصورة فاعلة عبر الأنشطة التعليمية الرقمية بالتزامن مع الأنشطة التعليمية التقليدية، والتي تتطلب تواجد المعلم مع المتعلم، وتفاعلهما وجهاً لوجه؛ إذ يعبر المنهج الرقمي عن مجموعة الخبرات التعليمية المباشرة في صورتها الإجرائية التي يتم تخطيطها وتنفيذها وتقويم آثارها بالاعتماد على التقنية الرقمية التفاعلية؛ لتتقابل أهدافه مع أهداف المنهج السائد.
ولإحداث تغيرات في سلوك المتعلم بصورة مقصودة داخل أسوار المؤسسة التعليمية أو خارجها، ينبغي أن يتم وفق أنشطة تعليمية معدة سلفاً من قبل خبراء التعليم، ويترجمها من يحمل على عاتقه الرسالة السامية، والنشاط التعليمي في حد ذاته يشكل مجموعة المهام التي يخطط لها، وبالطبع يؤديها المتعلم، في صورة مهام محددة، وقد تكون هذه المهام فردية أو جماعية، والتي يتم اشتقاقها من المحتوى التعليمي لموضوع التعلم، والتي يتحقق بواسطتها أهدافه الإجرائية المحددة سلفاً، ويتضمن في طياته البعد الزمني، وأدوار المشاركين، والتعليمات والإرشادات المرتبطة بطبيعة المهمة أو المهام التي تؤدى، وآليات التقويم التي تحدد أنماط التعزيز أو التغذية الراجعة، المرتبطة بمهام النشاط التعليمي، والمهمة تعني الأداء الذي يقوم به المتعلم لتحقيق الأهداف المنشودة من العملية التعليمية في صورة إجرائية (قابلية الأداء للملاحظة والرصد).
وعند إعداد وصياغة الأنشطة التعليمية الرقمية من قبل أصحاب الرسالة السامية يجب مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين؛ حيث توفير أنماط منها تتناسب مع هؤلاء المتعلمين متبايني أساليب التفكير، وأساليب التعلم المفضلة لديهم، ويراعى ذلك في الأدوار التي يؤدونها، ولا يخفى عن المتخصصين بأن الأنشطة التعليمية الرقمية يمكن التعديل عليها بغية التحسين والتطوير، بما يسهم في تحقيق أهداف العملية التعليمية.
وحري بالذكر أن رقمنة الأنشطة التعليمية تؤكد على الممارسات الفعلية التي يؤديها المتعلم عبر المنصات التعليمية، وترتبط بالأهداف الإجرائية التي تم صياغتها، والتي يؤديها المتعلم منفرداً أو بمشاركة زملائه، وتحت إشراف المعلم، وفي ضوء طبيعة المهام المرتبطة بتلك الأنشطة، يحدد المعلم مداخل أو استراتيجيات أو طرائق أو أساليب التدريس، وآلية تنفيذ تلك المهام (فردية _ جماعية)، والتغذية المرتدة، ونمط التعزيز، ومن ثم يختار أساليب التقويم المناسبة.
وإذا ما وفق المعلم في إعداد الأنشطة التعليمية في صورة مهام قابلة للقياس والرصد، تتوافق مع طبيعة المتعلمين، يتمكن من تقديم الخبرات التعليمية المراد إكسابها للمتعلمين بكل سهولة ويسر عبر المنصات التعليمية الرقمية؛ لأن حجر العثرة يبدو جلياً في (ماذا سيفعل المتعلم منفرداً ومشاركاً عبر المنصات التعليمية الرقمية)؛ فالأمر لا يتوقف عند حد الشرح أو التلقين عبر المنصات التعليمية الرقمية، وإنما يتركز الاهتمام على آلية ممارسة مهام الأنشطة التعليمية بواسطة المتعلم، وتحت إشراف المعلم المباشر، مع الأخذ في الاعتبار تفعيل التعليم المتزامن والتعليم غير المتزامن عبر المنصات التعليمية الرقمية.
والسؤال المطروح: هل يستحق هذا الأمر كل هذا العناء سالف الذكر؟ … إننا نتحدث عن مستقبل متعلم يعد ثروة الوطن؛ فلا تهاون في إكسابه خبرات التعلم المقررة والمحددة من قبل السياسة التعليمية بمصرنا الحبيبة، والواقع الحالي يوصف حالة الاهتمام البالغ من قبل القيادة السياسية، ومن يمثلها بوزارتي التعليم قبل الجامعي والتعليم الجامعي في ضرورة استكمال أنشطة التعلم وتعميق خبراته عبر المنصات التعليمية الرقمية؛ فلا مناص من استكمال المسيرة التي تبني العقول، ومن ثم تبني الأوطان؛ فالتعليم قضية أمن قومي بإجماع العالم بأسره.
حفظ الله بلادنا، ومكن لها أمر رشد، ووفق قيادتنا الحكيمة لسبل الخير والإعمار.. ودي ومحبتي.