»» بقلم ✍️ أ.د/ مها عبدالقادر
(أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر )
يؤدي التطور التقني وما نتج عنه من ثورة تكنولوجية عالمية في جميع المجالات والقطاعات إلى حتمية تسلح القوي العاملة المستقبلية بالمعارف والمهارات والقدرات التي تواءم المتغيرات العالمية وتواكب سوق العمل، ومن ثم ينبغي العمل على إعداد المواطن المصري تعليمًا وتدريبا على أحدث التقنيات؛ باعتبار أن القوى العاملة قادرة على التعامل مع عناصر الإنتاج الأخرى؛ لتوفير منتج أو خدمة بجودة عالية ومتميزة وتكلفة منخفضة والمنافسة في الأسواق العالمية.
وقد تزايد الاهتمام في العقد الماضي بالعلاقة بين التعليم وسوق العمل، وتنامي الوعي بضرورة تفعيل العملية التعليمية، بحيث يكون التعليم نشاطاً مشاركاً في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وتعتمد الأولويات في التعليم على عوامل كثيرة معقدة ومتغايرة، فهي تستند إلى الأهداف المجتمعية، منها ما هو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي، وكلها أهداف إنسانية تعتمد على إمكانية الدولة المصرية وقدراتها على تمويل التعليم والتدريب كما تتوقف على المؤثرات البيئية سواء اتصلت بثقافة الأسرة أو المؤسسات التعليمية أو وسائل الإعلام.
ولابد أن تستند سياسة التعليم واستراتيجياته التي تستهدف التماسك الاجتماعي والتضافر والتكافل، إلى قيم المجتمع وعاداته وأعرافه، وقد يستغرق التطوير والتغيير وقتاً، ويتطلبان جهداً في التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقويم والتعديل على نحو مستمر ومتجدد وجذاب، واذا لم يتوفر ذلك تنتشر البطالة المقنعة بين المتعلمين، والتي تعرف بأنها عدم القدرة في الحصول على العمل أو نشاط اجتماعي مفيد مقابل أجر مناسب لإمكانيات ومهارات المتعلمين، وقد يرجع ذلك أما إلي المتعلم ذاته لتقصيره في استمرارية التعلم والتنمية المهنية المستمرة لمواكبة كل ما هو جديد واللحاق بركب العمل.
وهناك عوامل تساعد على البطالة مثل الركود الاقتصادي والأزمة المالية والثورة التكنولوجية وانعكاساتها على نوعية المهارات المطلوبة ولا يمتلكها المتعلم؛ ولكن يمكن التدريب عليها وإتقانها مع وجود رغبة وشغف بذلك؛ وهذا ما أدي إلي الربط بين البطالة والتعليم من حيث مناسبة التعليم لأنواع العمل، ومناسبة مؤهلات خريجيه ومهاراتهم كمطلب أساسي للاختيار والانتقاء بالوظائف، وقد وجهت انتقادات كثيرة للتعليم بمختلف الدول على أنه المسئول الأساسي عن البطالة لأن نوعية الخريجين لا تكتسب المعرفة والمهارات المطلوبة لاحتياجات ومتطلبات سوق العمل في الألفية الثالثة.
والتعليم منوط بدور مهم في إعداد القوى البشرية اللازمة لبناء اقتصاد قومي قوى متجدد، ولكن يلاحظ علي هيكل العمالة المصرية أن هناك عجزاً في القوى البشرية في مهن وتخصصات معينة، وهناك تخصصات أخري بها فائض كبير في عدد من يعملون بها، ولا تزال المؤسسات التعليمية تخرج أعداداً كبيرة في هذه التخصصات، في حين أن أعداداً قليلة يمكنها شغل الوظائف التي تولدت وتمخضت عنها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وفي المقابل هناك زيادة مستمرة في أعداد الراغبين بالتعليم وإشباع حاجاتهم وطموح أسرهم في الحصول على تعليم جامعي متميز.
ولقد كان تطوير التعليم في الماضي يعتمد على التوسع الكمي، وإتاحة فرص التعليم للجميع باعتبار التعليم حقا أساسياً من حقوق الإنسان، ووسيلة لرفع مستوي المعيشة، إلا أن التطور المعرفي والتقني المتسارعين جعلا التوسع الكمي وحده لا يكفي لإعـداد قوي بشرية مدربة لتحقيق أعلى معدل من التنمية في ظل عالم سريع التغير، أو دخول سوق العمل.
ولابد أن يهدف التعليم بمراحله وأنماطه المختلفة إلى إعداد كوادر القوى البشرية القادرة على أداء كافة الأعمال بكفاءة وقدرة عالية، وذلك عن طريق التعليم والتدريب الفني بمستويات متدرجة ومتنوعة من الكفاءة والمهارة، وبصورة تلبى حاجات خطة التنمية وسوق العمل، وتتطور لتقابل تحديات المستقبل، وتنفرد بمستوياتها وتخصصاتها النوعية وتحدث فارق بالمجتمع، وشكله الحضاري، ونموذج ثروته، ونهضته.
وتولي الدولة المصرية اهتماما كبيراً للتعليم وعالجت حالة الانفصال بين أنماطه المختلفة، واعتمدت على أساليب متنوعة لتحقيق التكامل وإدخال مواد مشتركة عامة بينهما كالرياضيات والعلوم واللغات الأجنبية ومبادئ التقنية والاتصالات التطبيقية وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي إلى جانب المواد التخصصية.
وكذلك زيادة المقررات الأكاديمية في التخصصات والبرامج المهنية، وجعل المقررات الأكاديمية أكثر مهنية، واعتماد مسارات وبرامج يتكامل فيها جميع الأنماط واختيار مشاريع متقدمة تتكامل فيه المعارف والمهارات بدلا من المقررات الاختيارية، بالإضافة إلى الاهتمام بالتدريب المستمر للطلاب أثناء الدراسة وبعدها، حيث يتم من خلاله توجيه الطلاب نحو مؤهلات معينة ومهنة محددة وفق قدراتهم ومهاراتهم ورغباتهم، مع إتاحة التنقل لهم بين أنظمة التعليم بمرونة ويسر.
وقد عمدت الدولة المصرية وقيادتها السياسية، إلى التكامل بين أنماط التعليم المتعددة، وفتح قنوات ومسارات بينهما لاستكمال الدراسة، وتمهين التعليم لإعداد مواطن المستقبل المناسب لكل عمل وفي أي وقت، والأهم من ذلك حدوث نوع من الشراكة بين المؤسسات الاقتصادية والتعليمية من خلال تمويل مشروعات التعليم والمشاركة في مجالس المؤسسات التعليمية وتحديد المناهج ونوعية المهارات، والمساهمة في تنفيذها، وتدريب المتعلمين عليها داخل مؤسسات العمل، وتقديم المعدات والأجهزة التي تحتاجها المؤسسات التعليمية.
وهذا يتواكب مع متطلبات العصر الذي يهدف إلى تحقيق التقدم العلمي من خلال زيادة الطلب على التخصصات العملية التي تسهم في إعداد جيل من الشباب ذي عقلية علمية قادرة على التعامل مع التكنولوجيا المتطورة وإفرازاتها، لتحقق متطلبات المجتمع في التنمية والنهضة التي يرنو لها المجتمع.
وتقوم المؤسسات في النهاية بانتقاء المتعلمين المتميزين بإنجازاتهم داخل المؤسسة التعليمية وإعطائهم فرصة عمل داخل هذه المؤسسة وهذا يعتبر حافزاً لتوجيه الطلاب للعمل الجاد واكتساب المهارات اللازمة للدخول إلى سوق العمل، وأيضا دافع للمؤسسة التعليمية يدعو إلى التنافس لرفع مستوى الأداء وتحسين نوعية التعليم المقدم للطلاب لجذب أفضل المؤسسات الاقتصادية وتحقيق الشراكة بينها بهدف توفير التمويل اللازم للعملية التعليمية وتحسين نوعية وكفايات وكفاءات المخرج التعليمي؛ لكي يصبحوا ملمين بالعمل الذي سيوكل إليهم بالمستقبل، وبذلك تتلافى الدولة الفجوة بين التعليم والعمل وخاصة الفجوة التمويلية التي تعاني منها مؤسسات التعليم المصرية.
وقد أصبح العصر الحالي في حاجة ماسة إلى المؤهلين بالمهارات التكنولوجية واللغات على مستويات الحياة والعمل ابتداء من الوظائف العادية إلى الوظائف التخصصية الأكثر مهارة، وهو ما يتطلب وجود تنوع في تخصصات التعليم المصري وتعدد نماذجه لمواجهة حاجات السوق ومطالب التنمية، ونتيجة لذلك سيضطر الفرد إلى تغيير مهنته عدة مرات والانتقال بمرونة وسرعة من تخصص إلى آخر وهذا يتطلب توافر العديد من الخبرات والقدرات تمكنه عند الضرورة من الانتقال إلى مهنة أخرى.
وهو ما يفرض على المؤسسات التعليمية أن تكون منفتحة القنوات متصلة الحلقات مستمرة إلي جانب امتلاك خريجيه لمهارات عديدة قابله للتحول إلي حقول مهنية متعددة ومن هذه المهارات الإنتاجية والتنافسية والتعاون والتنمية الذاتية ومهارات التعامل والاتصال والتطوير والمهارات العقلية العليا إلي جانب مهارات العمل الأساسية الاهتمام بالتدريب والتدريب التحويلي لتقوية العلاقة بين التعليم وسوق العمل وصقل مهارات وقدرات الخريجين، وتوفير تعليم متميز يهدف إلى التفرد المبني على الإجادة والاستقلالية والدقة في العمل ومما يتيح الفرصة للمتعلمين لإتقان ما يتم تعلمه وتوظيفه بطريقة إجرائية تعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع.
ومن هنا تسعى الدولة المصرية من خلال برنامج تطوير التعليم بمراحله المختلفة للاستفادة من معطيات تكنولوجيا المعلومات والتقنيات التعليمية المتطورة في إحداث تغييرات بما تؤدي إلى الانتقـال إلى نمط جديد من التعليم يتسم بتعدد الوسائط التعليمية، وتغير أسـاليب التعليم والتعلم وتعددها بما يؤدي إلى إثراء هذه البيئة، ومن ثم تنتقل بالمتعلم من ثقافة الحفظ والتلقين إلي ثقافة الإبداع والابتكار، ومن ثقافة التسليم والقهر إلي ثقافة التقويم والمشاركة، ومن ثقـافة الاستهلاك والاعتماد علي الآخر إلى ثقافة الإنتاج والاعتماد علي الذات والانطلاق للريادة والتنافسية، ومن التعلم المحدود إلى التعلم المستمر مدي الحياة وتعليم يعتمد على التفكير والإبداع، وعلى الاستعدادات والمواهب الشخصية وإعداد متعلمين يسعون دائما للأفضل والتميز والتفرد.
وهذا ما نؤكد عليه لإحداث التنمية والنهضة ورفاهية الحياة، ومن ثم يجب أن يكون التعليم مرتبط بمعايير الجودة متميز في النوعية يلبي الطلب الكمي والنوعي لمتغيرات سوق العمل ويطور الكفاءات والمهارات لتناسب مع متطلباتها الألفية الثالثة، ويوسع المجال للاختيارات التكنولوجية في شتى الأنشطة المجتمعية ويغرس قيم الكفاءة والجودة والريادة والتنافسية وقيم العمل والالتزام في إطار من المسئولية الأخلاقية والاجتماعية.
حفظ الله مصرنا الغالية وقيادتنا السياسية وشعبنا العظيم .