أول صداقتنا لما كتبت عن السيرة الهلالية. دعاني صديقي الراحل شوقي جمعة ( حدثتك عنه فى كلمات سابقة) إلى مشاهدة حلقة من برنامجه “الفن الشعبي” في تليفزيون الأبيض والأسود. أشار إلى أن السيرة الهلالية هي محور الحديث، والمتحدث هو الأستاذ الجامعي أحمد شمس الدين الحجاجي.
لا أذكر الملاحظات التى ضمنتها كتاباتي، لعلها اتصلت باختلاف الروايات بين الباحثين والرواة، ما أذكره جيدًا زيارة أحمد شمس الدين الحجاجي، التي كانت بداية صداقة جميلة. لم تعد الهلالية وحدها نبض الحوارات بين الحجاجي وبيني، أفدت بما لا أنكره من قراءاته ودراساته، وجدت فيه رفيقًا وافر الثقافة والوعي، في عوالم الأدب الشعبي والتراث والمسرح والشعر القديم والسرد قديمه وحديثه.
الحجاجي هو هو في حياته الشخصية والعملية، البساطة والعفوية والدهشة والتلمذة على أقطاب التصوف وكتب الإنسانيات والقدرة المذهلة على الحكي. وكما يصف نفسه، فقد ولد مع الأسطورة بالقرب من معبد الأقصر، تفتحت عيناه على روحانية الدين، وطقوس الأفراد والجماعات في حلقات الذكر والإنشاد والأدعية والابتهالات والسير الشعبية والمواويل التي يرددها الرواة: السيرة الهلالية، السيرة الظاهرية، شفيقة ومتولي، حسن ونعيمة، أدهم الشرقاوي، إلخ.
زرته في بيته بحي بين السرايات، وفي بيته بالأقصر. رائحة المكان لم تتغير، وإن كان سكن بين السرايات شقة في بناية خصصت لأساتذة جامعة القاهرة، أما بيت الأقصر فينتمي إلى التراث المعماري للصعيد، القاعة الواسعة والمصطبة والمقرنصات والنقوش والسلم الصاعد إلى حيث يقيم أهل البيت، كل ما حولك يستدعي السير الشعبية والملاحم وحكايات الجنوب. أذكر أني التقيت في بيت بين السرايات فرقة للسيرة الهلالية، استضاف أفرادها قبل أن يقدمهم في سهرات رمضان.
أصدقاؤه كثر، لكنه يخص بحبه من يقاربونه إنسانيًّا وفكرًا. يجد – على سبيل المثال – في الراحل نعمان القاضي بطلاً يرقى إلى مستوى الأبطال الشعبيين، ويجد في عبد المنعم تليمة شبيهًا للزناتي خليفة، يكره البطولة ويبتسم وسط النيران.
كانت اهتماماته مقصورة – أو تكاد – على المسرح، عمل على النصوص القديمة، ثم تبين أنه من الصعب فهمُها إلا بدراسة التراث الشعبي وفهمه، وتوصل إلى أن المسرح والأدب الشعبي وحدة متكاملة، الأسطورة تنتسب إلى فن الفرجة الشعبية، والمسرح وليد الأسطورة الشعبية والأغنية الشعبية، والراوي بعد مهم في ذلك كله؛ لذلك كان اختياره الأسطورة لرسالة الماجستير.
ظلت الأسطورة شاغله، حتى ذهب لجمع السيرة الشعبية من قنا، وعلى حد قوله فقد وجد الناس يعيشون السيرة الشعبية، واكتشف أنها أساس الرواية وصانعتها، واجتهاد النقاد بنسبة الرواية إلى الغرب ليس حقيقيًّا، فمعظم روايات البواكير لا تنأى عن السيرة: زينب لهيكل، وعودة الروح لتوفيق الحكيم، وشجرة البؤس لطه حسين، ثم أتت ثلاثية نجيب محفوظ، وأولاد حارتنا للمبدع الكبير نفسه.
درس الحجاجي السيرة بمنهج علمي، حاول الإفادة من ريادة أساتذة الجامعة والباحثين والرواة الشعبيين. مع تعدد الرواية الشعرية لسيرة الهلاليين في صعيد مصر، والتنوع الخلاق لتلك الروايات، فإن الهلالية ظلت غائبة عن اجتهادات الكتاب والمفكرين حتى أربعينيات القرن الماضي. ثم طالعنا محمد فهمي عبد اللطيف – الباحث الذي ظلمه ابتعاده عن المجال الأكاديمي – بدراسته عن السيرة الهلالية، إلى جانب دراساته المهمة الأخرى: السيد البدوي ودولة الدراويش في مصر، فلاسفة وصعاليك، ألوان من الفن الشعبي، إلخ، كما درس عبد الحميد يونس سيرة الهلاليين، وقدم فؤاد حسنين بعض نصوصها في كتابه الرائد “قصصنا الشعبي”. وكما يقول الحجاجي فإن جميع هذه الدراسات اتجهت إلى النصوص المدونة، ورواية الوجه البحري، وتركت روايات الهلالية الشعرية الصعيدية مهملة حتى الخمسينيات، حين بدأ باحثون مصريون في مركز الفنون الشعبية في جمع بعض هذه النصوص.
لم يقصر الحجاجي اهتمامه بالسيرة على قاعات الدراسة والبحث، فقد عني بالتحفيز على التعرف إليها بالكتابة عنها، وإجراء الحوارات والمشاركة في الملتقيات وتقديم أشهر رواة السيرة: جابر أبو حسين وسيد الضوي الملقب بسيد القوالين وعوض الله عبد الجليل وغيرهم.
كان جابر أبو حسين – والرأي للحجاجي – يعرف كل دروب رواية بني هلال مما يروى في الشمال والجنوب، وكان بداية شهرته الكبيرة في قنا.
الحكاية تقول إن رجلًا من الأشراف اسمه الرشيدي، ذهب إلى مولد عبد الرحيم القنائي ليفي بنذر له، التقاه أبو حسين، وصحبه لزيارة سيدي عبد الرحيم، أقام جابر بعدها بالقرب من المقام. ينشد – كل ليلة – حتى صلاة العشاء، ثم دعاه الرجل إلى بيته، فأنشد السيرة وذاعت شهرته في مدن أقصى الجنوب.
البطل الشعبي في أدب أمة ما، هو – في تقدير الحجاجي – نتاج واقعها الاجتماعي، والسياسة من أهم عناصره، وواقعها الثقافي، والدين عنصره الأهم. البطل نتاج هذه الخلطة الممتزجة امتزاجًا تامًا، والبطل في السيرة الشعبية العربية ليس بدعًا بين أبطال السير، بل هو تعبير عن الجماعة التي أبدعته، ولأن ظروف الأمم تختلف، فإن الخلافات بين أبطال السير في الأمم المختلفة، تعود إلى تلك الظروف الاجتماعية والثقافية.
إذا كان الحجاجى قد عرف – إبداعيًّا – بروايته “سيرة الشيخ نور الدين” ومسرحيته “الخماسين” فإنه يدافع عن المبدع فى قلمه بالقول إنه لم يكتب رواية واحدة، بل كتب 11 رواية، والعديد من المسرحيات قبل أن يبلغ الخامسة عشرة. بل إنه لم يكن تجاوز السنوات العشر عندما بدأ كتابة الشعر. وبرغم رأى أصدقائه أن تجربته قاربت التجربة الشعرية لصلاح عبد الصبور، فقد أدرك أن الشعر ليس عالمه الإبداعي، واتجه إلى الكتابة المسرحية.
ولعل قائمة إصدارات الحجاجي تعبير عن تعدد اهتماماته، وثراء موهبته: الأسطورة في المسرح المصري المعاصر، العرب وفن المسرح، الوظيفة بين الأسطورة والمسرح، الأسطورة في الأدب العربي، رواية “سيرة الشيخ نور الدين”، مسرحية “الخماسين”، صانع الأسطورة الطيب صالح، مولد البطل في السيرة الشعبية، النقد المسرحي في مصر، المسرحية الشعرية في الأدب العربي الحديث، النبوءة، أو قدر البطل في السير الشعبية العربية، مدخل إلى المسرح العربي، وغيرها.
يرجع الحجاجى إلى التليفزيون – من خلال برامجه المتخصصة – دور مهمً فى إحياء التراث الشعبى، يشير إلى دور الراحل شوقى جمعة، الذي أمضى سنواتٍ في إخراج برنامجه “الفن الشعبي”، ويطالب بأن يستمر هذا الدور ويتعاظم، بتواصل البرامج والمسلسلات التي تعني بالحفاظ على تراثنا الشعبي، شريطة أن تتخلص مما قد يشوبها من أخطاء مضمونية.
حين قدم التليفزيون – فى 2010 – مسلسلًا عن شيخ العرب همام، دار حوارٌ هاتفي بين أحمد الحجاجى وبيني.
قال: كتب المؤلف عن شخصية قومية، رجل لعب دورًا خطيرًا في صعيد مصر. قبل ذلك كانت هناك لجنة مؤلفة من ثلاثة: واحد فى الأقصر من الجعافرة، وآخر من أسوان، والثالث هو والد شيخ العرب همام. الصعيد لم يكن يبتعد عن بعضه. تحدثت عن ذلك في روايتى “سيرة الشيخ نور الدين”. ثمة الأشراف والعرب. الهوارة الذين تحدث عنهم المسلسل لم يكونوا هم كل ناس الصعيد، ولم يكن المماليك بذلك السوء الذي صورهم به المسلسل. كانوا – تاريخيًّا – مقبولين من ناس الصعيد، بعكس النظرة إلى الأتراك، فقد دافعوا عن الصعيد. عني المسلسل بالقبيلة لا بالصعيد، ويحسب للصعيد قيامه بالعديد من الثورات. أما أن يتحول ابن عم همام إلى خائن له، فهو ما لم يحدث. شيخ العرب همام اتخذ من إخميم مركزًا للحكم، ومات في معركة وهو يمتشق سيفه، ولم يمت في بيته، فاعتبره الناس وليًّا، وله شواهد في أصفون المطاعنة وإسنا، وقتل في جامولة، وله شاهد هناك.
أردف الحجاجي قوله: لاحظت أن المسلسل اختلق شخصية الشاعر كأنه ابن عروس، شخصية بلا معنى فى الدراما. وهو أمر معيب. أتصور أن المؤلف لم يبحث موضوعه بالشكل الكافى. هناك كتب، ورسالة جامعية عن شيخ العرب. حتى اختيار شيخ العرب بطلًا للمسلسل لم يكن موفقًا. الرجل بدأ حياته فى العشرين، بينما الفخراني يبدو في الستين، وفي سن وفاة شيخ العرب كان همام فارسًا، يحارب على فرسه ويقود الجيش، لكنني لم أر الفخراني إلا جالسًا أو سائرًا أو بين زوجتيه. كذلك فإن علي بك الكبير لم يكن بذلك السوء، فقد استقل بمصر من قبل أن يغزوها الفرنسيون.
لي رأي في “الحرافيش”: هي امتداد فني لرواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”. معظم الآراء قصرت رأيها على أن أولاد حارتنا قراءة جديدة لسير الأنبياء منذ بداية البشرية.
أشرت إلى رأيي، فقاطعني بالقول: لا تتحدث عن كتاباتك قبل نشرها.
أضاف بلهجة مشفقة: ربما نُسبت – بضم النون – اجتهاداتك إلى آخرين.
تذكرت غضب نجيب محفوظ لما تحدث في ندوة كازينو أوبرا عن انشغاله بالإعداد للثلاثية، قدر أنها ربما تكون أول رواية أجيال أو رواية نهر فى الرواية المصرية. وفوجئ بغياب صديق أديب عن الندوة لأشهر ستة متتالية، ثم عاد وفي يديه نسخ من رواية كتبها في أشهر الغياب؛ ليصبح أول من كتب رواية الأجيال!
استعدت – بنصيحة الحجاجي – نصيحة أستاذنا نجيب محفوظ، بأنه من الأوفق أن يحتفظ الكاتب، ليس بمسودة عمله فقط، وإنما بفكرة العمل أيضًا، لا يعلن عنه قبل أن ينشر في أوراق.
استندت نصيحته – بالطبع – إلى واقعة كازينو أوبرا!
المرة الوحيدة التي أذنت لنفسي أن أعوم في بحر حذرني الحجاجي من صخب أمواجه، عندما قرأ صفحات من مسودات روايتي “رباعية بحرى”: نجيب محفوظ أستاذ في إبداعه عن الفتوات، أخشى من اتهامك بالمحاكاة!
طال كلامي عن فتوات الإسكندرية، وفتوات بحري بخاصة، وأنهم يختلفون عن فتوات قاهرة محفوظ في خصائص جسمية ونفسية.. لكن الحجاجي ظل على تخوفه، وكم كان شعوري بالاعتزاز وأنا أنصت إلى ملاحظات التباين بين فتوات عظيم القدر والمكانة نجيب محفوظ، وفتوات كتاباتي التي أملاها تعرف حقيقي، من خلال حكايات أبي وأصدقائه، ومشاهدة غروب شمس الفتوات فى معركة قاسية، ساحتها ميدان على تمراز!
أحب الحجاجي إبداعات سيد الرواية العربية نجيب محفوظ، ينسب إليه أهم منجزات الرواية الحديثة. أما القصة القصيرة فهي تدين بالإمارة ليوسف إدريس، وإن وجد الحجاجي في “الحرام” عملاً روائيًّا رائعًا، ملاحظته الوحيدة هي الخاتمة التي تخلت فيها الرواية عن عفوية الأحداث، فتحولت الشجرة إلى موروث شعبي مقدس. وكان يحيى الطاهر عبد الله تعبيرًا عن قاص كبير، لولا الحادثة القاسية التي قصفت عمره أثناء ركوبه طريق الصعيد. تناول الحجاجي إبداعه المنشور في كتاب قليل الصفحات – نسبيًّا – لكنه تأكيد للموضع الذي حققه يحيى الطاهر في سردنا الحديث، وكان يستطيع – بموهبته الرائعة – أن يتجاوزه.
برحيل أحمد شمس الدين الحجاجي يغيب عن حياتنا – ظاهريا – معلم مهم في حياتنا الثقافية، لكنه سيظل حاضرًا في وجدان محبيه وأصدقائه وتلاميذه.
رحمه الله.