كتبها- وليد شاهين
كُفَ بصره بعد عام من مولده.. ونصحه “النقشبندى” بتعلم أصول القراءات والمقامات بالقاهرة
صاحبه الزميل الراحل “محمد مجاهد” وحاول جمع تسجيلاته النادرة وإعادة ترميمها
استقل دراجة هوائية وسار بها بين الناس ليدخل السرور على قلوبهم
قد يختلف اليوم وتتغير ملامحه إذا أشرقت شمسه ولم نسمع عبر أثير إذاعة القرآن الكريم ابتهالاً بصوته “النورُ أشرق في الوجودِ جميلُ.. والصبح للكسبِ الحلالِ سبيلُ” دأبت الإذاعة ببثه مع إشراقه كل صباح منذ عدة عقود، وعند المساء وقبل أذان العشاء يملأ الدنيا بصوته الشجى العذب وكأنه يعانق النجوم فى كبد السماء “الليل أقبلَ والوجُودُ سُكُونُ.. بالليلِ راحت تستريحُ جُفونُ.. وهناكَ أحلامُ الخيال توافدت تسرى.. فتسبحُ فى الخيالِ عيونُ” فلكل قارئ ومنشد مدرسة ومقلدون.. أما مدرستهُ فهى عصية على التقليد.
ولد الشيخ القارئ والمبتهل “محمد أحمد عمران هريدى السيد” فى منتصف أكتوبر عام 1944 بمدينة طهطا بسوهاج، معافى فى جميع أعضاء جسده.. تعلوه ملامح النضارة والجمال.. وكان سريع النمو فى صغره حتى بلغ عامه الأول.. حملهُ عَمَّهُ ذات يوم.. فاستحسن البنية الجسدية للصغير وسرعة نموه، وقال له: “ده أنت لو طلعت كدة تهد جبال” -وفقاً لرواية موثقة لجدته- فلم يبصر الرضيع النور فى اليوم التالى، حيث اكتشف والديه أن نور عينيه قد ذهب.
أتم الصبى “محمد عمران” حفظ القرآن الكريم في سن العاشرة على يد الشيخ محمد عبد الرحمن المصري، ثم جوده على يد الشيخ محمود جنوط في مدينة طما، وكان معروفاً بشغفه الشديد للشيخ “سيد النقشبندى” وأدائه الرائع فى الابتهالات والتواشيح، ومن حسن الأقدار للشيخ “عمران” أن “النقشبندى” ابن محافظة الغربية، كان متزوجاً ومستقراً فى ذلك الوقت فى “طهطا” بلد الشيخ “عمران”، فصاحبه فى كثيرٍ من حفلاته، بعد أن سمِعَ له “النقشبندى” وأعجب بقدراته الصوتية، وبعد فترة ليست بالطويلة نصحه بأن يذهب إلى القاهرة ليتعلم أصول المقامات وعلم القراءات.
انتقل الصبى الصغير “عمران” إلى القاهرة وهو ابن أحد عشر عاماً، ونزل ببيت والدة الحاج “علي نوفل” بمنطقة الجيارة بمصر القديمة، فأحسنوا مثواه واعتبرته سيدة المنزل المسنة ابناً لها، ثم التحق بمعهد المكفوفين للموسيقى، حيث تعلم أصول القراءات والإنشاد وعلم النغم والمقامات الموسيقية وفن الإنشاد على يد الشيخ “سيد موسى الكبير” رئيس بطانة المنشدين وقتها، فنهل منه أصول الإنشاد، حتى أتم دراسته للثانوية الأزهرية.
تزوج الشيخ “محمد عمران” وعُيّن قارئاً للقرآن الكريم في مسجد شركة حلوان للمسبوكات، وذاع صيته وانتشرت شهرته بين العمال، فتقدم بعد ذلك لاختبار الإذاعة المصرية في بداية السبعينيات، وتم اعتماده مبتهلًا بالإذاعة، وقد لحن له سيد مكاوي وحلمي أمين العديد من القصائد، إلى جانب موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذى اعتبر صوت الشيخ عمران “كنزاً من كنوز النغم فى مصر”.
سجَّل للإذاعة عددًا كبيرًا من الأناشيد والابتهالات، وقام بعمل بعض التترات للمسلسلات الدينية، كما أنشد وشارك في الغناء للعديد من البرامج الدينية الغنائية وفي الاحتفالات بالمولد النبوي وآل البيت والأمسيات والمناسبات التي أقيمت بدار الأوبرا المصرية.
كان الإنشاد متوطناً في نفس عمران، وكان لا يحب الترحال والسفر كثيراً خاصةً خارج مصر إلا للحج أو العُمرة، وذلك على الرغم من الدعوات التى كانت تنهال عليه من العديد من الدول العربية والإسلامية خاصةً فى شهر رمضان، كان قلبه مُعلقا بمنطقة الجيارة في حي مصر القديمة، ومسجد حسن الأنور الشاهد على صباه منذ جاء للقاهرة وحتى أصبح المنشد المشهور، وكان شغوفا بجمع الشرائط والتلاوات النادرة، ينثرها في كل مكان فى بيته، يعيش على هديها “مكتبته فيها أكثر من 10 آلاف شريط”.
تميز الشيخ بين أقرانه وأصدقائه بحبه للمرح وحسن الدعابة، حتى أنه استقل ذات مرة دراجة هوائية على الرغم من كونه كفيفاً إلا أنه سار بها بين الناس، ومع وقوع بعض الإصابات الخفيفة التى منحته إياها الدراجة وبعض جدران المنازل، إلا أنه أدخل الفرح والسرور على أهل الحى الذى كان يسكن فيه.
تتلمذ على يديه الزميل المرحوم المنشد وليد شاهين، وتعلم منه علم النغم والمقامات فى الإنشاد الدينى، وصاحبه الكاتب الصحفى بجريدة “المساء” الزميل الراحل محمد مجاهد -رحمهما الله- فى العديد من حفلاته وأسفاره، وشاركه معظم مواقفه التى عاصرها مع الشيخ، خاصةً زياراته المستمرة لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وكان للزميل “محمد مجاهد” عدة محاولات مع أسرة الشيخ “عمران” لجمع تراثه وترميم بعض تسجيلاته النادرة التى لم تأخذ حقها لدى المستمعين وإعادة نشرها من خلال الإذاعة أو وسائل التواصل، خاصةً أن للشيخ تسجيلات كثيرة جداً تمت قبل اعتماده لدى الإذاعة المصرية، لكن المنية وافته قبل أن يتم هذا الأمر مع ورثة الشيخ.
كان للشخ “محمد عمران” خمسة من الأبناء، 3 ذكور وبنتان، وكان أصغرهم “أحمد” المقرب جداً إلى قلبه، مات وهو فى سن السادسة من عمره سنة 1986، وكانت هذه الحادثة بداية مرض الشيخ وحزنه الشديد، حتى أُصِيب بعدة أمراض من بينها السكرى وأمراض الكبد، تداعت صحته مع الوقت، وخف وزنه، وتغيَّر شكلهُ، لكن صوته بقي يافعاً يجذب السامعين، وكان يكره المستشفيات، ولم يقبل على إجراء عملية لاستئصال الطحال حين توجب عليه ذلك طبياً، والمرة الأولى التي دخل فيها مستشفى؛ كانت هي المرة الأخيرة، إذ خرج منه إلى مثواه الأخير، بعد أن لقى ربه فى ليلة الخميس 6 أكتوبر سنة 1994، ودفن بجوار مسجد عمرو بن العاص بمصر القديمة- رحم الله شيخنا الجليل رحمةً واسعة.