كتبها- وليد شاهين
صاحب شخصية قرآنية مستقلة ومواقف وطنية.. محب للدعابة والفكاهة
قراءته بددت قلق الملك “عبد العزيز”.. ورفض عرضاً مغرياً لهيئة الإذاعة البريطانية اعتراضاً على مشاركة بريطانيا فى العدوان الثلاثى على مصر
الشيخ الوقور الخاشع.. صاحب الصوت “الفضى” الذى يميل إلى الحنان والتحنان والخشوع كما وصفه علماء الصوتيات.. فهو صاحب الإبداع دون زخرفة.. يتميز بين قارائي القرآن الكريم بأنه كان صاحب شخصية قرآنية مستقلة وصاحب طريقة متميزة في ختام التلاوة، كما كان صاحب مواقف وطنية، حيث رفض التسجيل لهيئة الإذاعة البريطانية قبيل اندلاع حرب السويس لدور بريطانيا في التخطيط وشن العدوان الثلاثي على مصر بمشاركة إسرائيل وفرنسا سنة 1956.
وُلِدَ الشيخ “محمد منصور محمود الشامى” الشهير بالشيخ “منصور الشامى الدمنهورى” -نسبةً لمسقط مولده مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة- صبيحة الأحد 12 أغسطس 1906، حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره على يد الشيخ “أحمد غزال” قبل مغادرته إلى طنطا ليتلقى أصول التلاوة في المسجد الأحمدي، ثم العودة مرة أخرى إلى مدينة دمنهور، ولجمال صوته وحسن أدائه الذى يسلب الألباب ويسيطر على عقول وأنتباه مستمعيه ذاع صيته منذ الصغر وأصبح مطلوباً لإحياء المناسبات فى قرى ومدن البحيرة.
عُيِّنَ الشيخ “الدمنهورى” قارئاً للسورة وشيخاً بمسجد “سيدي ضحوة” بدمنهور، ثم انتقل إلى الإسكندرية في الخامسة والعشرين من عمره وتم اختياره رئيساً لجمعية المحافظة على القرآن الكريم، ثم رئيساً لرابطة القراء في الإسكندرية لعدة سنوات.
كان الشيخ “الدمنهوري” يهتم أثناء تلاوته بتحقيق الأداء القرآني السليم في علوم القراءات والتجويد، فكان بارعاً ولديه قدرة عجيبة قد حباها الله إياه فى تصوير المعنى أثناء التلاوة، فيقرأ بمقام فيه فرح عند البشارة أو الحب أو الرحمة كمقام “الكورد” أو “البياتى”، ويستخدم مقام مثل “الصبا و الحجاز”عند الحزن والحنين والخشوع، ويجعل للنهاوند طابعه بين الفرح الممزوج بالحنين وأيضاً الخشوع، ويتنقل بسلاسة ورشاقة بين المقامات بما تحمله من قرارٍ وجواب عندما يقرأ آيات الترهيب والعذاب والوعيد.. وكان الشيخ منصوراً فى أدائه عندما يصدح بآى الذكر الحكيم بفضل نبراته الخاشعة ووقفاته الثابتة، وتميزه بصوتٍ مستقيم لايحتاج إلى زخرفة، ويعد أحد أبرز رواد التلاوة في عصره، نال من الصيت والشهرة والمجد الكثير، وأفاض الله عليه من فضل القرآن حتى نافس عباقرة التلاوة في النصف الأول من القرن العشرين.
يعتبر الشيخ “منصور الشامى الدمنهورى” من أقدم مقرئ الإذاعة المصرية، حيث تم اعتماده قارئاً بها عام 1945 ليصل صوته لآذان المسلمين في الهند وباكستان والسعودية والمسجد الأقصى، وعبر أثير هيئة الإذاعة البريطانية فى مرحلةٍ سابقة على رفضه إعادة التسجيل معهم بسبب مشاركة بريطانيا فى العدوان الثلاثى على مصر وكان المقابل كبيراً مقارنةً بقيمة العملة وقتها حيث تم رصد خمسة جنيهات لكل دقيقة، لكنه أصر على الرفض، وفي عام 1952 عين قارئاً لمسجد “رمضان شحاتة” في مدينة الإسكندرية.
أخذ الشيخ موقفاً سلبياً ضد وزارة الأوقاف، فكان يرفض دائماً السفر إلى الخارج عن طريق وزارة الأوقاف لإحياء ليالى رمضان، لأنها كما يقول تساومه ولا تشعره بكرامته فقرر أنه من الأكرم أن يقضى الشهر الكريم في بلده بين الصوم والصلاة والاعتكاف في العشر الأواخر، لكنه في عام 1957 دعته السفارة السورية لإحياء العشر الأواخر من رمضان فى المسجد “الأموى” بدمشق، فتهلل وجهه واستبشر كثيراً لعشقة للمسجد “الأموى”، واسْتُقْبِلَ بحفاوةٍ شديدة على المستويين الشعبي والرسمي، حيث كان فى استقباله الرئيس السوري آنذاك، وأكرم مثواه.
تقاضى الشيخ بعد دخوله الإذاعة راتباً شهرياً قيمته 15 جنيها، وكان يُعد أكبر أجراً بعد الشيخين “الشعشاعى، ومصطفى إسماعيل” حيث كان الواحد منهم يتقاضى 20 جنيهاً شهرياً، وكان للشيخ في شهر رمضان 8 إذاعات، أربعة منها في الفجر والآخرين قبل المغرب وفى فترة الصباح.
تمتع الشيخ “الدمنهورى” بروح مرحة ودودة محبة للدعابة والفكاهة، وشهد له الرعيل الأول من عظماء القراء فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين بالتفوق، وتنبؤا له بمستقبلا باهراً في مجال التلاوة، وعندما عُيِّنَ قارئاً بمسجد “أبو العباس المرسى” بالإسكندرية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها بين الجيش النازى والبريطاني في منطقة العلمين على بعد أميال من الإسكندرية، وبالرغم من حالة الهلع التى أصابت الجميع؛ أصر الشيخ على الاستمرار في القراءة داخل المسجد السكندري الشهير.
ومن المواقف المشهودة للشيخ “الدمنهورى” أنه في نهاية الأربعينات توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ضمن بعثة الحج الرسمية، وفي تلك الأيام كان مؤسسة الدولة السعودية الملك “عبدالعزيز آل سعود” في حالة قلق شديد لتعثر ولادة زوجته حينذاك، فقرأ له الشيخ “الدمنهوري” وأسمعه ما تيسر من القرآن الكريم، حتى تسللت الطمأنينة إلى قلبه وتبدل قلقه واستبشر، ثم أتته البشرى بولادة ولى عهده؛ فقرر الملك أن يسمى المولود “منصور” تيمناً باسم الشيخ “منصور الدمنهوري”.
وبعد أن ترك لنا عدة تسجيلات قرآنية جليلة داخل مصر وخارجها، وزار عدة دول عربية وإسلامية يتلو فيها آيات الله، وبعد أن رزقه الله بـ 13 ولداً منهم عشرة ذكور أصبح منهم أساتذة جامعة وأطباء وضباطاً ومهندسين، رحل الشيخ “منصور الشامى الدمنهورى” عن دنيانا مبكراً قبل أن يتم عامه الثالث والخمسين ودفن فى مسقط رأسه يوم الخميس 26 مارس 1959.. رحم الله شيخنا الجليل رحمةً واسعة على ما قدمه فى تلاوة كتابه الحكيم وأسكنه فسيح جناته.