يكتبها- وليد شاهين
ملك الإنشاد الديني وشيخ المبتهلين.. شجعته أم كلثوم وعبد الوهاب
وصفته الصحافة الألمانية بأنه “يضربُ على أوتار القلوب”.. والإذاعة المصرية كانت ترفض اعتماده 6 مرات!!
هو أحد مؤسسي فن الابتهال وواضع قواعده ورافع رايته.. يضرب بصوته على أوتار القلوب وتحلق فى رحاب السماء والخشوع.. تخاطب ابتهالاته الروح قبل العقل.. حين تسمعه تشعر وكأنك في عالم خاص ملؤه الخشوع، صاحب الصوت الروحانى الذى يخاطب الوجدان والمشاعر الصادقة.. تربع على عرش دولة الإنشاد.. وأوجد لنفسه مدرسته الخاصة المميزة فى فن الابتهالات والتواشيح.. أقسم الزمان ليأتين بمثله.. لكن الأيام تمضى ولم تأتى بغيره.. فسكن القلوب واستحوذ على العقول.. وبأدائه المرهف جعل العين بدموعها الحانية على القلب خيرُ دليل.
وُلِدَ الشيخ “نصر الدين محمد شلبي محمد طوبار”, عام 1920 بحى الحمزاوى، بجوار مسجد الحمزاوي فى مدينة المنزلة بمحافظة الدقهلية، كانت عائلته قد انتقلت من على ضفاف بحيرة طبرية بالشام, ونزلت علي شاطئ بحيرة المنزلة, فأقاموا بجوار منزل الشيخ “أبو نصر شهاب الدين شريف” وكان من قضاة الإقليم, ثم تصاهروا مع هذا الشيخ وسكنوا إلي جواره وبنوا بيتا عرف بالبيت الكبير قبل أن يبني جده “شلبي طوبار” القصر المعروف باسمه.
تعلم الصبى الصغير في كتاب الشيخ “محمد أبو سلطان”, واكتشف والده عذوبة صوته الذى ورثه عن جده الشيخ “شلبى طوبار” الذى كان محفظاً وقارئاً للقرآن الكريم، فقرر تحويله من المدرسة الخديوية إلى المدرسة الأولية ليتعلم أصول اللغة العربية ويكمل حفظه للقران الكريم ويتعلم أصول تجويده.
وبعد أن أتم الله عليه حفظ كتابه، ذاع صيته فى مدن وقرى محافظة الدقهلية نظراً لحسن صوته وروعة أدائه المتقن، ونصحه كل من استمع إليه أن يتقدم للاعتماد بالإذاعة المصرية لتكون له منبراً حتى يصل صوته إلى جمهور المستمعين فى القطر المصرى ويسمعه الملايين، وبالفعل ذهب الشيخ إلي القاهرة عدة مرات, واستقر فيها، وتقدم إلى اختبارات الإذاعة كقارئ للقرآن الكريم، ومن العجيب أن اللجنة لم تُجِيزه ، وظلت ترفضه كلما تقدم إليها، حتى رسب ست مرات متتالية فى اختباراتها، لكنه توقف مع نفسه هذه المرة وأخذ بنصائح أصدقائه من القراء بأن يهتم بعلم المقامات الموسيقية، فقام بدراستها بمعهد الموسيقي العربية علي أيادي متخصصين، وتقدم لاختبارات أصوات قراءة القرآن والإنشاد الديني للمرة السابعة, فحاز على إعجاب أعضاء اللجنة بجدارة، وتم اعتماده مبتهلاً في الإذاعة عام 1956 أي وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وكان أول تعيينه مقرئاً للقرآن ومنشداً للابتهالات بمسجد “الخازندارة” بشبرا, وهو المسجد الذي شهد فترة عز وتألق وشهرة الشيخ.
اهتم الشيخ “طوبار” بالأداء الفردي الخاشع الممتلئ بالشجن، أكثر من اهتمامه بالتواشيح التي تؤدى جماعيًا أو مع بطانة، وقد اعتمد في أدائه على المناجاة الباكية، والضراعة الخاشعة التى تخاطب الوجدان، حتى تسلل صوته إلى قلوب الجماهير وهز مشاعرهم لتتحول فى لحظات الاستماع إلى مشاعر رقيقة جياشة بالخوف من الله والرجاء فى كرمه وعفوه، وقد ظهر ذلك عليه في إحساسه الدقيق بالنص الشعري الذي يؤديه، وقدرته الفائقة على تجسيد المعاني واختيار المقامات الموسيقية الملائمة لها، ويغفل مراعاة الوحدة الزمنية الإيقاعية أثناء الأداء، فكان في الحزن الشديد يقرأ من مقام “الصبا”، وفي حالة الوجد يغردُ من مقام “النهاوند” أو “البيان” أو”الحجاز” وفقًا للمعاني وللحالة المزاجية التي يكون عليها في أثناء الإنشاد.
وجد الشيخ تشجيعاً كبيراً في بداياته من موسيقار الأجيال “محمد عبد الوهاب”، والسيدة أم كلثوم, وبزغ نجمه في الابتهالات والتواشيح, وكان يري “عبد الوهاب” فيه بأنه صوت مميز وحنجرة ذهبية، ولقبه جمهوره بـ”ملك الإنشاد الديني وشيخ المبتهلين”، كما درس الشيخ “طوبار” اللغة العربية ورأى فيه محمد حسن الشجاعى، رئيس الإذاعة وقتها ، بأنه مكسب للإذاعة المصرية.
وقع اختيار الرئيس الراحل “أنور السادات” على الشيخ “طوبار” ليكون مُشْرِفاً وقائداً لفرقة الإنشاد الدينى التابعة لأكاديمية الفنون، كما شارك فى احتفالية مصر بعيد الفن والثقافة فى عام 1980، وأنشد فى السبعينيات من القرن الماضى على مسرح قاعة “ألبرت هول” بلندن وذلك فى حفل المؤتمر الاسلامى العالمى، وكان هذا سبباً كافياً لشهرته دولياً، حيث كتبت عنه الصحافة الألمانية ووصفته بقولها: “صوت الشيخ نصر الدين طوبار يضرب على أوتار القلوب”، بعدها زار الشيخ العديد من دول العالم، وإعجاباً وتقديراً لصوته الأخاذ، فقد كرمته كل الدول التى زارها.
كان الشيخ أول من شدا ابتهاجاً بانتصارات أكتوبر 1973 وقدم ابتهالات وضعت خصيصاً لهذه المناسبة، منها “سبح بحمدك الصائمون” و “انصر بفضلك يامهيمن جيشنا” وأدى معظمها أمام الرئيس السادات الذي كرمه أكثر من مرة، واصطحبه في زيارته للقدس وكان ذلك يوم العيد من عام 1977 وأدي الشيخ أروع الابتهالات، كما منحت ورثته نوط الامتياز من الطبقة الأولى لاسم الشيخ بعد وفاته عام 1991.
عاش الشيخ “نصر” حياة هادئة وسالمة مع أسرته الصغيرة المكونه من زوجته وولديه, فالشيخ نصر له ولدان هما أدهم وياسر, وهما محاميان ومقيمان بالقاهرة.
قدم الشيخ “نصر الدين طوبار” ما يقرب من مائتي ابتهال تزخر بها مكتبة الإذاعة، وظل متواصل العطاء، ثرى النفع، ينشد ويبتهل الفجر بشكلٍ شبه ثابت لسنوات من المسجد الحسينى خاصةً فى ليالى رمضان، حتى أسلم الروح إلى بارئها فى يوم الخميس الموافق السادس من نوفمبر سنة 1986، عن عمر يناهز 66 عاماً، بعد حياة حافلة بالصوت الندى الذي روى القلوب ولامس الآذان.. رحم الله شيخنا الجليل رحمةً واسعة.