كتبها- وليد شاهين
صاحب موهبة قرآنية ماسية.. جمع فى صوته بين القوة والخشوع
أول من قرأ القرآن فى أول صلاة فجر تنقلها الإذاعة على الهواء مباشرةً من المسجد الحسينى
كانت قريته على موعد مع قدرٍ مشرق.. سيأتيها الله بطفلٍ كفيف.. وسيملأ بصيرته بالقرآن ويحبوهُ بالصوت الجميل.. ليصبح قارئاً عظيماً يتلو آيات الله آناء الليل وأطراف النهار.. ومعلماً من معالم شهر رمضان.. سجل أسمه بأحرف من نور بين قراء القرن العشرين.. ميزه ربه بموهبة قرآنية ماسية.. جمع بين القوة الصوتية والخشوع فى التلاوة.. فكان لا يقرأ بمقامٍ واحد كما يفعل العديد من القراء.. بل كان يتنقل بين مقامٍ وأخر فى رقةٍ ودقةَ أداء.. اشتهر بين العارفين بأستاذ الوقف والابتداء الجليل.. فضياع أحكام القرآن والتلاوة عنده جدُ مستحيل.
وُلِدَ الشيخ “عبد العزيز على فرج” يوم السبت الموافق 22 من يناير 1927 داخل بيت والده بقرية ميت الوسطى التابعة لمركز الباجور بمحافظة المنوفية، ذو إعاقةٍ بصرية، ومع هذا لم تمنعه هذه الإعاقة من حفظ القرآن الكريم وتعلم أصول التجويد وعلوم القراءات، حيث كانت إعاقته محفزاً ودافعاً قوياً لوالده بأن يرسم لصغيره الكفيف طريقاً يضئ له مستقبله أثناء وبعد حياته، وبفطرة الوالد الذى كان يعمل مزارعاً بسيطاً أيقن أن الطريق هو القرآن، به سيهتدى “عبد العزيز” إلى النور فى عتمة الحياة، فدفعه والده فى سنٍ مبكرة إلى كُتَّاب الشيخ “أحمد الأشموني” وهو أحد أبرز وأشهر مشايخ القراءات فى المنوفية فى ذلك الوقت، فلقَّنَ الصبى “عبدالعزيز” القرآن الكريم حتى أيقنه وحفظه كاملاً مجوداً بأحكامه، كما تعلم أصول القراءات السبع.
بدأ الشيخ الصغير يقرأ القرآن بصوت ندى لا مثيل له، وعرفه الناس، وشجعه من حوله من أهل قريته على خوض مضمار القراءة فى المناسبات، فبدأ فى إحياء السرادقات فى قريته، حتى ذاع صيته، وبدأ يتلقى الدعوات من القرى المجاورة، لكن طموحه كان أكبر وأشمل، فقد أردا أن يعوض عدم رؤيته لبعض الناس وأشكالهم منذ ولادته بأن يُشْخِصَ له الأبصار ويُشَنِّفُ الآذان لإبداعاته القرآنية فى أرجاء مصر والدنيا بأثرها، فأيقن أن بداية الإنطلاق تأتى من المحروسة، فانتقل الشيخ “عبد العزيز” بأسرته من قريته بمركز الباجور، للعيش في منطقة حكر أبودومة، في منطقة شبرا بالقرب من موقف أتوبيس الأقاليم، حتى يسهل عليهم السفر إلى بلدتهم كلما أرادوا.. ثم تزوج الشيخ وانتقل إلى شارع الجسر بحى روض الفرج.
جمع الشيخ “عبد العزيز” بين عدة مدارس فى القراءة، وتميز صوته الجهورى بالقوة والخشوع، وطول النفس الذى لا يخل بالمعنى أو الأحكام، وكان يتعامل مع المقامات الموسيقية بشكلٍ دقيق وتنويع متناغم، ما يمكنه من أن يُلْبِسَ كل آية حلتها، ونظراً لقوة صوته لم يكن يبدأ القراءة من القرار، لكنه كان يحلق دائماً فى سماء المقام أى الجواب وجواب الجواب، لدرجة أنه يستطيع أن يسمع جمهور المستمعين فى أطراف وجنبات المساجد بدون استخدام مكبرات صوتية، فصوته خليطاً مابين المسحة الصوفية، والوقفات القوية.
ذاع صيت الشيخ وملأ الدنيا بصوته، وطاف ربوع مصر لتلاوة القرآن الكريم وتعليم أحكامه في المناسبات العامة والدينية وفي المأتم، ودروس العلم، وكان لا يتاجر بكتاب الله تعالى فكان يقرأ القرآن الكريم لوجه الله ولا يشترط أجر على تلاوته في أي مكان يذهب إليه، وكان يرضى بالقليل من الأجر وفي أوقات كثيرة لا كان بتصدق بوقته فى القراءة ولا يتقاضى أى أجر من الأساس.
كان يعلن دائماً فى مجالسه الخاصة والعامة أن تلاوة القرآن الكريم يجب أن تكون بعيدة عن التربح وجمع الأموال، يقول: “القرآن الكريم ليس سبوبة للثراء والغنى وإنما هو كتاب هداية وتلاوة وإصلاح للبشرية ومرضاة الله تعالى فى الدنيا والآخرة”، ويرى أن فعل المعروف يقي الناس من مصارع السوء في الدنيا ويرفع الناس أعلى المنازل والدرجات في الآخرة.
اعتاد الشيخ على زيارة المرضى والثكالى وكبار السن وأولى القربى من أهله وجيرانه، فاستأنسه الناس وألفوا شخصيته الهادئة، فكان حلقة الوصل بين المتنازعين والمتخاصمين، فنال احترام الجميع وتقديرهم، بعد أن جمع بينهم بعُقد المحبة، خيطه العفو والصفح، وحباته التقى والورع والتواضع.
كما كان يذهب بصفة يومية للقاء الفقهاء والقارئين والمبتهلين في مقهى الفقهاء في شارع أبو العلا في القاهرة، وكان لهم الناصح الأمين، ثم تقدم بعدها إلى الإذاعة المصرية عام 1962، وكان عدد المتقدمين وقتها 170 قارئاً، لم يقبل منهم إلا أربعة يتقدمهم الشيخ عليه رحمة الله.
قرأ القرآن الكريم في أول صلاة فجر تنقلها الإذاعة المصرية من مسجد الحسين بالقاهرة، وشارك في إحياء المناسبات الإسلامية وليالي شهر رمضان المبارك، كما شارك في إحياء المناسبات الإسلامية وليالي شهر رمضان المبارك، وترك للمكتبة الإذاعية الكثير من التسجيلات.
أصيب الشيخ وهو في سن صغيرة بمرض السكرى الذي كان سببًا في وفاة الكثير من القراء، ليرحل عنا الشيخ عبد العزيز إلى جوار ربه يوم الخميس الموافق 17 مارس لسنة 1977، وهو فى قمة تألقه وكان وقتها لم يتجاوز الخمسين عامًا.. رحم الله شيخنا الجليل رحمةً واسعة.