سعد زغلول في صورة” سيلفي”!
محمد جبري
الزعماء الذين أيقظوا الصحوة في المصريين، عبر مراحل تاريخهم الحديث، كثر: أحمد عرابي الذي هزمته الخيانة.. عبد الله النديم بنزوله إلى الناس في الأحياء الشعبية والقرى والأسواق، وتحديه الاحتلال وتبعية الخديو بالقصيدة والحكاية والخطبة الداعية إلى التغيير.. مصطفى كامل برومانسيته المحلقة وكلماته البليغة، محمد فريد ومأساته القاسية في الغربة، ثمنًا للفرار من ملاحقة الاحتلال.. حركوا المياه الساكنة، وإن لم يتحول الساكن – بمبادراتهم – إلى فعل إيجابي، إلى ثورة تواجه الاحتلال، وتعري عملاءه.
يختلف سعد زغلول في أنه قاد المصريين سنة 1919 في أولى ثورات العصر الحديث، بعد الاحتلال الإنجليزي لبلادهم.
إذا كان من سبقه من الزعماء قد حاولوا التوعية والتحفيز والتثوير، فإن المصريين هم الذين دفعوا سعد زغلول إلى قيادة الثورة.
المذكرات التى كتبها زعيم ثورة 1919 تبين عن الملابسات التي أشارت إلى طرق مغايرة اختار سعد زغلول السير فيها، لولا ذلك الحدث العظيم الذي دفعه إلى ركوب أمواج الثورة في تلاحقها المذهل، حتى اضطر الاحتلال لأن يجلس إلى طاولة المفاوضات، لمناقشة إنهاء وجوده.
شغلني سعد زغلول سنوات طويلة. كنت أعد بطاقات كتابي” مصر في قصص كتابها المعاصرين”. أردت أن أضيف به إلى حصيلتي المعرفية. بدا سعد زغلول سيدًا، ومسيطرأ في الجزء الثاني من الكتاب ذي الأجزاء الثلاثة (4500 صفحة ). اجتذبني التباين في اليوميات التي تناولت ترجمة حياته. عشرات الروايات تهبك – رغم اختلافها – إحساسًا بأن الزعامات الواعية، المسئولة، قد تصنع الثورات، وتضغط – في المقابل – على دور الشعوب في تحريك قيادتها، إلى حد السير في طريق ربما لم يكن يتجه إليها، لولا إرادة الجماهير.
الكتاب الجديد للطبيب الأديب هشام قاسم يعرض لمذكرات سعد زغلول التى حققها المؤرخ الراحل عبد العظيم رمضان، وتشي بالمغايرة التي أحدثتها ثورة طلبة مدرسة الحقوق، ثم المجتمع المصري كله من خلال قيادة فدائية مسلحة بقيادة عبد الرحمن فهمي، ومشاركة فئات الشعب وطوائفه، وهي الثورة التي ميزت سعد زغلول عن الساسة الذين التقوا المعتمد البريطاني للمطالبة بإنهاء الوجود الاحتلالي. لم ينشغل دعاتها بما قبل، وإنما شغلتهم استجابة سعد لندائهم، وحرصه أن يعبر عن حتمية استقلال الوطن، بعكس ما فعله – على سبيل المثال – سياسي آخر، نهر الطلبة، ودعاهم للعودة إلى دروسهم!
ثمة العديد من الأعلام الذين أدانوا أنفسهم فيما كتبوا من مذكرات أو ذكريات.
أول من يخطر في بالي الفرنسي جان جاك روسو. حفزت جرأته في تعرية الذات، الأديب أمين يوسف غراب إلى كتابة سيرته الذاتية، قوامها عصامية، جاوز خلالها تمني إجادة القراءة وااكتابة إلى موضعه في مقدمة المبدعين العرب.
لا أنسى المغربي محمد شكري في” الخبز الحافي”. لي ملاحظات على فجاجة مفرداته الجنسية، لكنه أجاد التعبير عن عوالم المهمشين في المجتمع المغربي.
أما التاريخ الذي حمله أستاذنا سيد عويس – عنوان كتابه – فقد أعطانا درسًا في معنى الأستاذية التي تبدأ من السلمة الأولي، ليصبح المرء – بالجدية والمثابرة – واحدًا من رموز الثقافة المصرية، بل إني أراه تجسيدًا للشخصية المصرية، ممثلًا في المشاعل من أبنائها: جمال حمدان ونجيب محفوظ وحسين فوزي وسلامة موسى وغيرهم.
لإدراك نجيب محفوظ حساسية التلقي عند المصريين، فقد استبدل بكتابة ذكرياته الشخصية رواية هي” المرايا”. ترك للقارئ تبين المضمر من سيرة حياته، الشخصيات التي التقاها، الأحداث التي عاشها، الوظائف التي تقلب فيها. بانوراما تشكل – في اتساعها – حياة مبدع من أهم رموز ثقافتنا المعاصرة.
أما سعد زغلول، ربما بروح المقامر المجازفة، أو بالحرص على الشفافية – وهو ما سنعرض له حالًا – فقد سمى الأشياء بمسمياتها.
وصفه هشام قاسم – من واقع البوح – بأنه حبيس الإدمانين: القمار والسلطة. وهو تعبير صحيح تمامًا، وإن نزعته الثورة من تأثيرهما، فأخلص لقضية استقلال شعبه، وظل على مستوى المسئولية والزعامة، حتى غادر الحياة.
إدمان السلطة يبين في زواجه من صفية كريمة رئيس الوزراء في عهد الاحتلال، وفي سعيه الملح لتولي منصبًا وزاريًا. ينقل عن إبراهيم الهلباوي قوله إن سعدًا يسعى للوزارة. ورغم اعتذار الهلباوي فإن سعدًا يراجع نفسه: بأي حق تغضب لمنع هذه المقالة؟ وبأي حق تلوم صاحبك وهو لم يقتر عليك، لكنه وقف على بعض ما خفي من سرك؟. إنك إذن لظالم! أتريد ألّا يفهمك الناس، وأن يستروا منك ما لم تستره عن نفك؟. إنك لجاهل وأحمق”.
وحين يعلن محمد محمود رأيه بأن ” قبول الوزارة في هذه الأيام خيانة للأمة لأنه يشايع أعداءها، ويشاركهم الإضرار بها”، فإن سعد زغلول يرد بالقول إنه” لا ينبغي مطلقًا أن يتخلى الأكفاءعن الحكم لغيرهم، لأن الأمة لابد أن تعيش، فكل ما يخفف آلامها يجب على أبنائها أن يفعلوه”.
ولنتأمل قوله – في دوامة انشغاله بتولي وزارة الأوقاف – ” لست أقدر على معاداة الإنجليز، وما أنا بعدوهم، لكني محب لبلادي، فإن كانوا أصدقاءها فإنهم أصحابي”.
كيف نتصور صداقة المحتل؟
أما إدمان القمار فهو أقرب إلى ما كان يعانيه الروائي الروسي ديستويفسكي، الذي أدت زوجه أنّا دورًا في إبعاده عن موائده.
يشير الكاتب إلى ما ذكره سعد في مذكراته عن خسائره الفادحة على موائد اللعب، حتى أنه كان يقترض من البنوك ليغطي خسائره. ويعترف سعد بأن لعب الورق أفقده مالًا طائلًا، وصيتًا بعيدًا، وراحة منزلية – والكلام لسعد – وفوت علىّ كثيرًا من الواجبات لأهل بيتي وذوي قرابتي وأصدقائي”. ويكتب: “والله إنه لايحل لي أن أشتغل بشيء قبل أن أجتث من نفسي أصول تلك الرذيلة، ولا يصح أن يهدأ لي بال حتى أتخلى عنها بالكلية”.
من هنا أتى الدور الذي حرصت عليه صفية حماية لمكانة زوجها، ولمستقبله السياسي. يكتب سعد في مذكراته عن عودته إلى البيت من النادي” وجدت امرأتي جالسة في انتظاري، ولامتني لومًا شديدًا. وكانت تبكي، فهدأتها، وأكدت لها بالإيمان أني ما لعبت، ولن ألعب، فاطمأنت ونامت، وعزيمتي أن أبر بهذا الإيمان، ووسيلتي إلى ذلك الإقلال من زيارة النادي، والله الهادي”.
رعت صفية زوجها في مرض إدمان القمار، كما رعته في أمراض عضوية أخرى، ولا يخلو من دلالة قولها له – عقب قرار الحكومة بتحديد أسعار القطن، وسخط الناس على ذلك القرار – أحمد الله على أنك لم تكن اليوم في الحكومة، وإلّا كنت في هم وغم وحيرة، فإما أن توافق على القرار فتجلب سخط الأمة، وتستنزل لعناتها عليك، وإما أن تعارض فيه، فتعرض نفسط لغضب الأقوياء”. وتعارض الزوجة فكرة ترشحه للمنصب الوزاري” لأنها تتوهم أن قبولي لهذا المنصب ينفر الناس مني، ويفضهم من حولي، فلا يعودون إلى انتخابي ( انتخب أكثر من مرة في الجمعية التشريعية ).
لذلك فإن تسمية أم المصريين تنطبق عليها تمامًا، لا لمجرد أنها زوجة زعيم الأمة، بل لأنها حمته من الأمراض العضوية، ومن نفسه.
والحق أن إدمان القمار صاحبه مرض آخر هو إدمان الخمر، يروي رفعت السعيد في كتابه عن سعدزغلول إنه كان يستأذن الحشود أمام بيته ليأخذ الدواء. وكان النبيذ ذلك الدواء!
تحت عنوان” سعد وقطار الثورة” يتحدث هشام قاسم عن زيارة الساسة الثلاثة سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلى شعراوي، للمندوب السامي البريطاني. امتد الحوار فشمل الأوضاع المستقبلية للبلاد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والرغبة في تحقيق مبادئ الرئيس الأمريكي ولسون بحق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن الإنجليزي ونجت – بالمناسبة له باسمه حي في مدينتي الإسكندرية – عبر عن استغرابه للتصور بأن الشعب المصري يمتلكالقدرة على هضم الحرية، وزاد إلى استغرابه القول بأنهم يمثلون أنفسهم.
لذلك نشأت فكرة جمع التوكيلات من المصريين.
سعد زغلول مثل للزعامة التي امتثلت لإرادة الشعب. وضعت حدًا فاصلًا بين ما كان، وما فرضته إرادة الجماهير. وكانت دافعه إلى نشر مذكراته دون أن يبدل فيها حرفًا واحدًا، تأكيدً للشفافية التي ألزم بهانفسه منذ اختار السير في طريق الثورة.