في أعقاب نكسة يونيو، كتب الدكتور مصطفى محمود مقالة، يؤكد فيها تناقض الشخصية المصرية، وتوزعها.. واستدل علي رأيه- الغريب ! – بالأمثال العامية المصرية التي قد تؤثر السلامة أحيانًا، وتدعو إلي العنف أحيانًا أخرى، وتنادي بالتمهل، وتنصح – في الوقت نفسه – بالاقتحام، وأشار مصطفي محمود إلي أن بعض بواعث النكسة، تلك الشخصية المتناقضة، الموزعة، المتحيرة، والمحيرة.
أحببت في هذا الكتاب الذى بدأ الراحل إبراهيم شعلان في إعداده كرسالة جامعية، بعد 1967، أنه يرد – في مجموعه – وربما دون تعمد – علي كلمات مصطفى محمود، ويفسر بموضوعية علمية، ما قد يبدو تناقضًا، أو توزعًا في الشخصية لمصرية، من خلال أمثالها العامية.
لعلي أختلف مع الكاتب في اسم الكتاب‘ فهو يعنى العامية للشعب المصرى علي امتداد الوادي، والواقع أن جهد الكاتب تحدد – كما ذكر في المقدمة- في أقاليم الوجه البحرى وخاصة حول فرع دمياط، في المنصورة ومراكزها، وبالذات في منطقة زفتى” باعتبارها مسقط رأسى وعشت فيها حياتى حتى الجامع، ولم تنقطع بها صلتي حتى الآن” وربما أشار الاسم أيضًا إلي المثل العامي في مصر، خلال مراحل تاريخها، منذ الحضارة المصرية القديمة، فالحضارات الغازية، إلي زماننا الحالي، برغم أن الدراسة ميدانية، تعايش أبناء عصرنا، تجمع من أفواههم المثل، وتصفه، وتحلله وتناقش، وتخرج منه بالابعاد الاجتماعية التي يدل عليها.
كان الأدق إذن أن يشير الاسم إلى المساحة المكانية – أكاد أقول: والزمانية – التي اشتملت عليها الدراسة، بدلًا من التعتيم الذي يجدر أن تنأى عنه الدراسات الجادة. فضلًا عن الرسائل الجامعية.
الحقيقة الأولى التي يطالعنا بها الكتاب – ربما دون أن يتعمد ذلك أيضًا- أن الدراسات الحالية في الأدب الشعبي – وفي الأمثال العامية على وجه التحديد، لم تبدأ من فراغ ، سبقتها ومهدت لها جهود عشرات المستشرقين الذين عنوا بدراسة الأدب الشعبي – والأمثال العامية بعد رئيس – كوثائق اجتماعية، وكتعبير عن تطور الحياة في البيئة المصرية.
يرجع الكاتب بداية الاهتمام بالأمثال العامية في مصر، إلي أوائل القرن التاسع عشر عندما عثر أحد المستشرقين – لم يعينه – علي مجموعة من الأمثال العامية لشرف الدين بن أسد، ثم بدأت محاولات متناثرة لتعريف المثل، وجمعه وتصنيفه، وكانت مصادفة لا تخلو من دلالة، أن يصدر في 1894 كتاب ” أمثال المتعلمين من عوام المصريين – لمحمود عمر الباجوري، وكتاب – مجموعة أمثال عامية مصرية – ” 1897 ” وتوالت المحاولات الجادة التي قصرت جهدها علي جمع المثل وتصنيفه، لكنها لم تعمل بنفس الدرجة، علي دراسته، والبحث عن مغزاه ودلالاته. ولعل محاولة أحمد تيمور في كتابه” الأمثال العامية” ثم محاولة أحمد أمين في – قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية – وغيرها من الأعمال التى جاوزت جمع المثل العامى وتصنيفه، إلي محاولة دراسته، ما بعد أساسًا ومنطلقًا لكل المجهودات الفردية والجماعية، التى جعلت من المثل العامى محور دراسات متخصصة ومتعمقة.
ما المثل؟
يبدأ الكاتب بتعريف المثل العامى: أنه” يعطى صورة حية ناطقة لطبيعة الشعب، بما فيها من تيارات ظاهرة وخفية،وبالتالي فهو لون أدبي يتمثل فيه الصدق ولا يعتمد علي ” المواربة”، بل أنه يتميز بخاصية مؤكدة في الانتشار، رغم كل الظروف والضغوط التي قد تسعى للحد من ذلك الانتشار.
لكن الكاتب لا يكتفى بهذا التحديد البسيط لمفهوم المثل العامى. إنه يحرص أن يضيف إليه تعريفات أخرى، لكتاب عرب وأجانب، فقدامى العرب، وصفوا المثل العامى، بأنه” جملة موجزة شائعة بين الناس”، ومن ثم فإن الايجاز والشيوع بعدان أساسيان في المثل العامى، ولعله من هذا التعريف، استمد أحمد أمين تعريفه للمثل العامى” نوع من أنواع الأدب، يمتاز بالايجاز اللفظ، وحسن المعنى، ولطف التشبيه، وجودة الكتابة،
التعريف نفسه تقريبًا تورده دوائر المعارف الغربية، وبالذات دائرة المعارف البريطانية، التي تقول عن المثل أنه جملة موجزة مصيبة المعنى شائعة الاستعمال. أما دائرة المعارف الأمريكية، فتعرف المثل بأنه “جملة قصيرة مصيبة للمعنى، تستحضر بدقة الحقيقة الشائعة، وتتولد أساسًا في المجتمعات الأولى بأسلوب عامي غير أدبي، وتكون شكلًا فلكلوريًا شائعًا في كل الأجيال”.
والمثل يختلف عن الحكمة بأن البيئات غير المتعلمة هي أرضيته الخصبة، وهذه البيئات – في واقعها – بيئات شعبية، تعيش حياتها في بساطة وسهولة، بصرف النظر عن الضغوط المادية الحادة، فهى ترسل المثل بالفطرة، دون تكلف ، بعكس الحكمة التي قد تنهض علي طريقة أسلوبية، يصعب علي الرجل العادى إدراكها.
بالإضافة إلي ذلك ، فإن الجملة الحكمية تظل – في معظم الأحوال – تعبيرًا عن تجربة فردية، وتنتسب في أحيان كثيرة إلي قائلها، أما المثل العامى فإنه في الأغلب يمثل الجماعة، باعتبار أن الجماعة لا تبقي التعبير علي حالته التي صدر بها من فم القائل، وتضيف إليه بتوالى الأعوام، ليتبدى في النهاية إنتاجًا جماعيًا ، يصعب أن ينتسب إلي فرد.
التناقض .. لماذا؟
أعود إلي ملاحظات مصطفى محمود التي شجب فيها أمثالنا العامية، إنها – في تقديره – أمثلة لكل المناسبات، وتبين عن حيرة وتوزع وتناقض في تركيب الشخصية المصرية.
لعلى وجدت في فصول كتاب إبراهيم شعلان.. ما يعد ردًا طيبًا حول تلك الملاحظة القاسية، ولنقرأ قوله: أن الأمثال لكونها تنتسب إلي الجماعة، أصبحت تمثل طبيعة الجماعة بكل ما فيها من متناقضات.
من هنا ظهرت الأمثال في بعض الأحيان بصورة متناقضة، ومتفقة في أحيان أخرى، ذلك لآن التجربة الجماعية غير مستقرة، ومن ثم لا يمكن أن تخضع لاحكام عامة ثابتة، لأن التجارب في الحياة قد تتفق في نتائجها، وقد يتناقض بعض هذه النتائج مع بعضها الآخر تمامًا، وقد تعبر هذه التجارب عن النظام الكامل في الحياة، وقد تعبر عن أحوال العالم الذى تسير فيه الأمور علي غير هدى..
ربما يتصل بهذه النقطة، ما يأخذه بعض الدارسين علي أمثالنا العامية أنها قد تجنح أحيانًا إلى طلب المهادنة والاستسلام، وربما الشذوذ والتحلل والانحراف، مثل: فرغ السلام بقي تفتيش الأكمام، جينا نساعده في دفن أبوه فات لنا الفاس ومشى، إن دخلت بلد تعبد العجل حش وارمى له، إن درى جوزك بغيبتك كملى يومك وليلتك، اللى يعفر عفار بيجى علي دماغه إلخ.
المغزى الذي تريد هذه الأمثال – وغيرها – التوصل إليه، أن تضع أمام الناس عيوبهم، عارية، واضحة ، مكشوفة، ليحاولوا – من بعد – التخلص منها، ومحاربتها، وكما يقول الدكتور عبد الحميد يونس، فإنها تضعها أمام الأفراد علي المشرحة.
إذا كان البعض ينظر إلي المثل العامى من ناحيته الأدبية الخالصة، من حيث خصائصه ومقوماته، فإن ما يعنى به البعض الآخر – وتلك، في تقديرى، هي النظرة الأصوب – ما يقوم به المثل في الجانب الاجتماعى، في الحياة اليومية للإنسان، ولعلنا نذكر هنا المثل الروسى الشهير “الأمثال عملة الناس”. بل أن الأمثال تعكس جوانب هامة في مظاهر الحياة داخل المجتمعات البشرية المختلفة، بكل ما يشتمل عليه أي مجتمع من عادات وتقاليد وتقاليد ومعتقدات، وقوى حاكمة ومحكومة ونظم وعلاقات وتقدم – أو تخلف – حضاري.. قد يصور المثل، في بعض الأحوال، نصًا لقوانين العلاقات الإنسانية، مثل: اللي أوله شرط أخره نور، اللي بدك ترهنه بيعه، الحرامى وعملته، حرامى بلا بينه سلطان.
هذه الأمثال التى جاوزت الألف، والتي قام إبراهيم شعلان بدراستها في محاولته المخلصة، تعبير عن بعض جوانب الشخصية المصرية، من خلال الأمثال العامية في أقاليم الوجه البحرى. وإذا لم يكن العمر أسعفه بمحاولات تغطى جوانب أخرى في الشخصية المصرية، في أقاليم أخرى، مثل القاهرة والصعيد والسواحل المختلفة، فإن الأمل أن يعني باستكمال المحاولة باحث شاب أو أكثر، بما يشكل إضافة مرجوة إلى المكتبة العربية.