»»
من آفات الفهم الخاطيء لتعاليم ديننا الإسلامي الوسطى الحنيف اللجوء لطرق غير مشروعة لأداء مناسك الحج والعمره ، وأحيانا المبالغة في أداء بعض العبادات والسنن، مما يعرض حياة هؤلاء المتقعرين والمتحذلقين وحياة الآخرين للخطر،دون مراعاة للقاعدة الشرعية التي تؤكد أن درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع.
ولا يلتفت هؤلاء لمخاطر هذا الفهم الخاطيء ،أو للقواعد المنظمة والقابلة للتغيير والتحديث كل عام وفقا لمقتضيات الحال ومستجدات الأمور ،والتي تحدد أطر القيام بكافة الشعائر الدينية وفقا للقواعد والقوانين والإجراءات المنظمة في المملكة العربية السعودية، وفي كافة الجهات المعنية بتنظيم الحج والعمره في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
وفي هذا الشأن حرم بعض العلماء الدخول للبلاد بطرق غير مشروعة للحج والعمرة ،بينما كره بعضهم هذه الطريقة، لكن الجميع اتفقوا علي ضرورة احترام قوانين الدول والتعاون علي البر والتقوى وحفظ المال والنفس، دون مجازفة أو مغامرة غير محمودة العواقب.
وأتذكر أنه ،وقبل عدة أعوام، وأثناء أدائي لسنة العمرة المطهرة ،والطواف بالكعبة المشرفة وكانت إبان عمرة المولد رأيت الحجر “الأسعد” علي مقربة مني أثناء الطواف فهممت بالوصول إليه ربما للمسه أو تقبيله،وإذا بأحد المعتمرين يضرب الناس بكوعي يديه وبقوة يمنيا ويسارا لكي يظفر بتقبيل الحجر ،مستغلا بنيته القوية وجسمه الضخم وأظنه من المسلمين الأفارقة ،دون أن يلتفت لما فعله من إيذاء لإخوانه من المسلمين والذي نالهم كما نالني شيئا من اللكز والضرب وكأننا في مباراة ملاكمة..
وبفضل الله تجاوزت الموقف سريعا وأشرت إلى الحجر من بعيد ،واكتفيت بذلك دون مزاحمة لهذا “الفتوة ” الجامح،وأكملت مناسك العمرة بسلام.
ومن يومها تيقنت وبالمثال العملي أن أناسا من المسلمين لديهم فهم خاطيء للتدين ،ولا يعرفون من شعائر العبادات إلا صورها الظاهرية دون النظر في حكمتها وجوهرها ،وما تغرسه في النفس من تقوي وقيم ايمانية وطاقة روحانية ووجدانية لا يعلمها إلا فقه المعني الحقيقي للعبادات..
ومابين الأمس وما يحدث اليوم قواسم مشتركة ،فقد تابعنا قبيل موسم الحج ما أصدرته السلطات السعودية من تعليمات صارمة بمنع الحج بتأشيرات الزيارة وفرض غرامات باهظة قد تتعدي العشرة آلاف ريال وعقوبات أخري تصل للحرمان من دخول المملكة،وغيرها من المحاذير المنظمة للحج والعمرة والزيارة.
ومن المسلم به ،ومع زيادة عدد الحجاج كل عام وكثرة حوادث الزحام والتكدس ،فللسلطات السعودية الحق في اتخاذ ما تراه من إجراءات لحفظ سلامة الحجاج وتأمين وصولهم لمختلف أماكن شعائر الحج،وتوفير كافة سبل الرعاية الصحية والاجتماعية.
ومع هذا فقد أصر نفر من المصريين ومن الجنسيات الأخري علي مخالفة هذه التعليمات وقاموا باستخراج تأشيرات سنوية ورفضوا مغادرة المملكة بعد هذه التحذيرات مما عرضهم للمساءلة القانونية واضطر بعضهم للهروب ومحاولة دخول مكة عبر الجبال وفي هذا الأجواء الحارة مما عرضهم لمخاطر صحية عديدة وتوفي عدد منهم وفقا للروايات الرسمية أو لشهود العيان من حجاج بيت الله الحرام.
ولا يختلف اثنان على أنه من عظمة ديننا الحنيف الوسطية والاعتدال والسماحة ،والنهي عن تعذيب النفس وإهلاكها وتعريضها للمخاطر.
وفي تقديري أن هناك مسؤولية تقع علي شركات السياحة والسفر في مصر والتي أسهمت في صناعة هذه الأزمة، وفي تسهيل الحصول علي تأشيرات الزيارة ،وإيهام الناس كذبا وبهتانا ،بأنها تصلح لأداء مناسك الحج والترويج لذلك عبر مختلف منصات التواصل ،وينبغي محاسبتها ،وايضا يجب محاسبة بعض الشركات المتورطة في تسهيل هذه التجاوزات من الجانب السعودي.
وأتصور أنه ورغم هذه الصور المؤلمة والموجعة التي أدمت القلوب ،فينبغي إيجاد آلية لتيسير الحج والعمرة دون مشقة ودون متاجرة بتطلعات البسطاء،وبلا مبالغة في الرسوم وتكاليف السفر والإقامة.
وتبقي الآيات القرآنية نبراسا ومنهاجا ومنطلقا لتصحيح هذه المفاهيم الخاطئة يقول الله عز وجل: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
ويقول تبارك وتعالي: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) آل عمران:97.
وَقَدْ وردت الْأَحَادِيثُ المتعددة بِأَنَّ الحج أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَدَعَائِمِهِ وَقَوَاعِدِهِ، وَأَجْمَع المسلمون عَلى ذَلِكَ إِجْماعا ضروريا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْعُمْرِ مَرّةً واحدة بِالنَّصِّ وَالْإِجْماعِ.
ومن بستان النبوة قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: حدَّثنا يزيدُ بن هارون: حدَّثنا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فُرِضَ عليكم الْحَجُّ، فَحُجُّوا، فَقَالَ رجلٌ: أكل عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ.
والحديث به إشارة لفضل الحج ومعانيه السامية ولو لمرة واحدة ،وليس بكثرة مرات الحج، تجنبا للمشقة ومزاحمة الناس.
ومن فضائل الأعمال ما ثبت في سنن الترمذي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة . فهذا ما ورد في فضل صلاة الفجر في الجماعة ثم الجلوس إلى شروق الشمس وصلاة ركعتين.
ومن الأثر الصالح مفهوم الحج القلبي أو الحج الروحي لغير المستطيع تقربا إلى رب العالمين :
– الإحرام : ضبط اللسان عن فضول الكلام فلا تقولوا إلا خيرا
– التلبية : لبيك اللهم لبيك تقربا وفرارا إليك.
– الطواف : على المحتاجين من الأقارب والجيران.
– السعي : في قضاء حاجات الناس ومساعدة كل محتاج.
– الوقوف بمنى : الوقوف بين يدي الله بركعتي قيام.
– المبيت : سلامة الصدر والبيات دون حمل أي بغضاء أو حقد أو حسد لأحد.
– الرمي : ترك الضغائن وصغائر الذنوب.
– النحر : الصدقة بالمال ،أو الأمر بالمعروف أو التبسم في وجه الناس.
– التحلل : البعد عن المعاصي ورد الأمانات لأصحابها والمسامحة.
هذا إذا لم يتيسر الحج، قال ابن رجب رحمه الله تعالى :”من لم يستطع الوقوف بعرفة”فليقف عند حدود الله الذي عرفه.
“من لم يستطع المبيت بمزدلفة” فليبت على طاعة الله ليقربه ويزلفه.
“من لم يقدر على ذبح هديه بمنى” فليذبح هواه ليبلغ به الُمنى.
“من لم يستطع الوصول للبيت لأنه بعيد”
فليقصد رب البيت فإنه أقرب إليه من حبل الوريد..
وهذا من قبيل الحكمة والفهم المتعقل الرشيد، وصدق الله العظيم وهو القائل في كتابه العزيز: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) البقره.
#