هل “البشعة” العرفية مثل القضاء العرفي الذي نحتكم إليه وديننا الحنيف يحثنا على اتباعه؛ قال تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) أم إنها درب من دروب الدجل والشعوذه؟
هناك من يدعي أن “البشعة” مثل القضاء العرفي، وهذا قمة الشطط، فالقضاة العرفيين يحكمون بما يسمعونه من الأطراف المتنازعة ويرتكزون على أدلة وبراهين.
وهناك قصة شهيرة تقول أن أحد القضاة العرفيين قد سرقت حظيرة الطيور الخاصة به، ولا يعلم من الذي قام بسرقتها وهو قاضي عرفي يفصل بين الناس فكيف يوجه اتهام إلى أحد الناس بدون بينة أو دليل، فجاءته فكرة استخدم فيها عقله وذكاء المُحكم، وجاء يوم الجمعة ووقف يخطب في الناس وقال لقد قام أحد الناس بسرقة حظيرتي ولم يكتف بهذا بل جاء ليستمع للخطبة، وهو يجلس بيننا الآن ولكنه قد نسي ريشة على رأسه فإذ بالسارق يضع يده على رأسه.
لكن “البشعة” تختلف اختلافاً كلياً عن القضاء العرفي وهذا ما سأتناوله.. ف”البشعة” هي إحدى الطرق التي استخدمتها القبائل العربية في البادية والحضر للحكم على براءة أو إدانة متهم عند استنفاذهم لجميع الأدلة لإظهار المجرم. ويقوم “المبشع” كما يطلقون عليه وهو الشخص الذي يقوم بعملية التبشيع بتسخين قطعة حديد تشبه المعلقة وهي كبيرة الحجم في النار حتى تصل إلى درجة الإحمرار ويقلبها ذات اليمين وذات اليسار حتى تصبح أشد احمراراً وتوهجاً بمجرد أن ينظر إليها المتهم يصاب برهبة وخوف فيا لبشاعة الموقف، ويقول المبشع للمتهم أخرج لسانك ولا تخف وقُم بلحس الملعقة بلسانك ولا تخف لأن النار لا تحرق برئ وإن كنت أنت السارق فأولي لك أن تعترف وإلا ستجد لسانك قد احترق وستخرج من هذه الجلسه محملاً بعارك أمام جموع الناس، وإن أذعن المتهم ووافق فيقوم بلحس هذه الملعقة الحديدية الضخمه ثلاث مرات ومن ثم يقوم بالمضمضة ثلاث مرات أيضاً، وإن لم يحترق لسانه فهذا بمثابة إعلان براءته ويقر جميع الحضور بالبراءة، ويكون الطرف المجني عليه متواجد ويقر أيضاً بالبراءة ويتسلم الشخص الذي أعلنت براءته ورقة موثقة من القاضي العرفي تقر ببراءته وأنه برئ أمام الله وأمام الناس.
أما إذا احترق لسانه فيا للعار يكون هذا إعلان بأنه مدان ويكون مطالباً برد ثمن البشعة ورد المبلغ الذي قام بسرقته.
وللدين رأي في موضوع “البشعة” فيرى ديننا الحنيف أن البشعة لا وجود لها وما هي إلا عادة ذميمة تصل إلى حد الفسق، فهب أن المتهم برئ وحرقته قطعة الحديد فيكون الأذى قد لحقه من جهتين الأولى إيذاء بدنه بالحرق أو الجرح والثانية إلصاق التهمة ببرئ وإباحة عرضه لكل متكلم وقد يلحقه أذى يؤدي للقتل وخصوصاً في حالة قضايا العرض كالزنا، ويجد الإسلام أن البشعه فيها عودُ للجاهلية وأعمالها فهي من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة وقد أبطل ذلك دين العقل والبصيرة ويجد الإسلام أن فيها تعامل مع الشيطان واستعانة بالجن.
ومن كل هذا نجد أن الإسلام يحرمها تحريماً تاماً أما بالنسبة لرأي العلم فهو مطابق لرأي الدين، فقد أجمع علماء النفس أن البشعة ما هي إلا خرافة والتعويل على جفاف اللسان وعلى حرقه نتيجة لحس النار هذا خطأ جسيم فربما يكون المتهم يعاني من مرض الرهاب فيجف حلقه بمجرد شعوره بالخوف والرهبة، فكيمياء الجسم تتغير بمجرد توجيه الاتهام للشخص دون أن يكون مذنباً.
وللفصل في هذا الموضوع الشائك أرى أن من يلجأ لهذه الخرافات ضال مضل ويعرض الطرف الموجه إليه الاتهام إلى مظلمة عظيمة لا يمحوها الزمن، فمن تعرض لهذا الموقف البشع وهو برئ سيظل يلعن من وجه إليه الاتهام ويكيل إليه باللعانات ويتوجه إلى الله بقوله “حسبي الله ونعم الوكيل فيمن ظلم”
يا سادة.. إن لم تستطع الوسائل العلمية الحديثة إظهار الجاني فهناك قاعدة ثابته نستطيع أن نلجأ إليها تقول “البينة على من أدعى واليمين على من أنكر”.. لو التزمنا بها لكُفينا جميعاً شر هذه الخرافات فكفانا وكفاكم حلف اليمين فمن حلف بغير حق فحسابه عند ربه فنجد أن بعض العامة لا يلجأون إلى حلف اليمين ويلجأون إلى الخرافات والبدع.. وهذا الأمر لا يستقيم.. هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل.
مهندس/أحمد جمال غزالى
عضو نموذج محاكاة مجلس الشيوخ