يعتبر البعض ” اعترافات القديس أوغسطين” أول كتابة حقيقية للسيرة الذاتية، اتسمت اعترافاته بالصدق والصراحة، وكشفت ما قد يسيء إلى صورته أمام القارئ. وتعد ” اعترافات جان جاك روسو” معلمًا مهمًا ثانيًا، تواصلًا مع اعترافات وذكريات أخرى، من أهمها ” يوميات لص ” لجان جينيه، و”مذكرات إيزادورا دنكان ” وغيرها.
لعلنا نجد في قول أستاذنا يحيى حقي: الماضي مهما كان مرًا فهو حلو” ما يبرر غياب الدقة – بتعمد أو بدونه – عن ذكريات الماضي، ننسى – أو نتناسى – معايب قديمة، ومواقف مؤلمة.
الذاكرة – في تقدير إيزابيل الليندي – تثبت بالكتابة، وما لا تصوغه في كلمات، وتسجله على الورق، لابد أن يمحوه الزمن، يتلاشى في الزمن.
أضيف رأي فدوى طوقان أن السيرة الذاتية فيها معنى التطهر الحقيقى. أنت تكتب تجربتك الحياتية، فتتحرر من وقعها وألمها،وإن كان من الصعب – في تصوري – أن تروي حادثة اقتحمها العيب أو الجرأة، ما لم تعدل وتحور، ربما دون تعمد. تقنع نفسك أن الحذف والإضافة ليس توشية، ولا تزويقًا، لما حدث.
قد ترتبط الذكريات بما بلغه الكاتب من مكانة اجتماعية. حتى العمل الروائي ( زينب ) خشي محمد حسين هيكل أن يسيء إلى وضعه السياسي، قدم مؤلفها بأنه “فلاح مصرى”، ووصفها بأنها مناظر وأخلاق ريفية. فلما وجدت الرواية اعترافًا غاب عنها في البدايات، وضع هيكل اسمه عليها باعتبارها رواية، وأضاف إليها رواية ثانية هي” هكذا خلقت”.
أوافق أورهان باموق في أن السيرة الذاتية هي فن الحذف والبتر، فن الإخفاء والتستر، والقيام بإجراءات الحذف، واختيار المشاهد التي يجب الحفاظ عليها في تركيب المونتاج، كما في تقنيات السينما. أضيف قول الروائي الإنجليزي أنتوني ترولوب ( 1815 – 1882 ): من يستطيع – أنا، أو أي إنسان آخر – أن يقول كل شيء عن نفسه؟. أتمنى أن يكون هذا ممكنًا، من ذا الذي يستطيع أن يتحمل الاعتراف بالقيام بعمل دنيء؟ ومن في الدنيا لم يرتكب عملًا سيئا؟!
حتى لو اعتمد الكاتب على الوثائق والمذكرات الشخصية والأحاديث المسجلة، فإن اختياراته تقلل من الحقيقة الكاملة. إنها تتأثر بالحذف، كما تتأثر بالإضافة، وعلى حد تعبير ماركيث: ليس المهم في الحياة هو ما يحدث لك، وإنما ما تتذكره منه، وكيف تتذكره”.
عندما يتحدث المرء عن نفسه، فإنه يحاول أن يتأمل أغوار الذات، يكشف المسكوت عنه، وما لم يكن قد باح بسره.
أعجب لمن اجتذبوا وجدان القارئ بالصدق الذى حرصوا عليه فى كتاباتهم. أهملوا العيب والحرام والحرج واللوم والدهشة والمعايرة. شغلهم أن يتحدثوا عما عاشوه بالفعل، ما رأوه وسمعوه وألقوا فيه الأسئلة. ذلك هو ما حدث، بلا إضافة ولا حذف ولا محاولة للتزويق.
لما احتل الكاتب مكانته أهلها له ذلك الصدق الحكائي فإنه ما لبث أن فطن إلى ما تفرضه المكانة من أبهة وذكريات لابد أن تؤطرها السعادة، وشجرة العائلة التى قد تمتد جذورها إلى السلالة النبوية، والأب الذى كان يصادق الباشوات والوجهاء، بدلًا من أن يحمل فأسه على كتفه، ويمضي كل صباح – مثل أي فلاح مصري أصيل – إلى الحقل ، ليضيف إلى تجدد الحياة. يبدل كاتبنا – بتأثير نزعة النجومية – أنبل ما فى سيرته الذاتية، الصدق والمعاناة، ويضيف من الألوان الفاقعة والمتنافرة ما يجعل منه مسخًا يذكرنا بالمثل الشهير عن الغراب الذى أراد أن يقلد مشية الطاووس.
كم تعاطفنا مع صبى طه حسين في ” الأيام ” وهو يحاول إيذاء نفسه بالساطور بعد أن علت ضحكات إخوته الساخرة من انسكاب العدس على ثوبه. وكم أكبرنا الراوي وهو ينسب فضل الأيام السعيدة إلى الملك الذي حنا عليه، وعلى ابنيه، فبدل حياتهم بعد العسر يسرًا.وفي ” سجن العمر ” تحدث توفيق الحكيم عن إصراره على دخول الحجرة التي سجي فيها جثمان أبيه بعد يوم من وفاته. أشفق عليه الأطباء من رؤية الميت، لكنه ظل على إصراره. أذن له الأطباء بدخول الحجرة، وما كاد يرفع الملاءة عن وجه الأب الراحل حتى أطلق صرخة فزع وجرى. كانت سحنة الأب -كما روى الحكيم – قد تغيرت تمامًا، بعد أن تهدل الأنف نتيجة للوفاة. ولامت لطيفة الزيات نفسها، بعد أن انسلخت عن ناسها – كما قالت – لتتزوج رجلًا له اهتماماته الأيديولوجية المغايرة، وأكدت أن ما كانت تتصوره حبًا لم يكن سوى تأثير علاقة سيطرة من جانب الزوج، كانت هي الدافع أيضًا لأن تهديه أول كتبها. وكل من قرأ مذكرات جان جاك روسو تبقى في ذهنه العلاقة الملتبسة بين الراوي والمرأة التي سماها ” ماما ” ، وإن لم تكن الأمومة وحدها هي الدور الذى أدته في حياته.
ومع أن الكثيرين قرأوا ” الأيام”، وأعجبوا بما تضمنته من صدق إنساني، فإن طه حسين يرى أن الكتاب الذي أحبه، وآثره هو”أديب”، الذي – ربما – لم يعجب الناس. إعجابه به يرجع إلى أنه وضع فيه – والقول لطه حسين – كثيرًا من شئون حياته الخاصة، وما كان يحيط بها في أوائل القرن العشرين.
ولعل أسوأ كتابات السيرة الذاتية حين ينتقد الكاتب من شاركوه حياته، أو التقوه فيها، يدين ويعري ويفضح، يعيد كلمات مالك في الخمر، لكنه لا يكاد يشير إلى نفسه، كأنه شاهد على الآخرين، وليس راوية عن نفسه.
أدين لأستاذي سيد عويس بأفضال كثيرة، لكنني صارحته بتحول تاريخه الذي حمله فوق ظهره إلى تصفية حسابات، تنقصها الموضوعية، بينه وبين زملاء له في الحياة الأكاديمية.
أشير كذلك إلى أني لم أحب كتابات المغربي محمد شكري التى تعتمد السيرة الذاتية، لا تستهدف البوح بقدر ما تأمل الإثارة الحسية. لو أن كاتبًا مبتدئًا أخلى لموهبته – بصرف النظر عن قدراتها – ما تكتب به إبداعًا مماثلًا لما يكتبه شكري، فإنه قد يلجأ إلى تغطية عورات الكتابة بالمفردات الجنسية لكل من الذكر والأنثى، وميكانيكية العلاقة الحسية، دون أية دلالة تقتضيها فنية العمل.
لا أدافع عن الأخلاق – وهي قيمة مهمة – لكنني أدافع عن الفن، عن قيمة الفن، وعدم تحوله إلى عبث تجاري، ومحاولات لابتزاز غريزة القارئ.
أقبلت على قراءة محمد شكري، وفي ذهني مقولته” أنا أكتب من أجل أن أُمْنع. أنا أومن أن ما أكتبه هو نور، ويراه غيري ظلامًا”.
مقولة مستفزة، صادمة، تدعونا إلى تأمل ما تنبض به من دلالات، لكن خيبة الأمل كانت هي الإحساس الذي غادرت به سيرة محمد شكري الذاتية” الخبز الحافي”.
***