جلست مها علي شاطئ النيل كان الماء ساكنا كأنما امتدت فوق سطحه طبقة لامعة من الجليد فعز عليها أن تكسر هذه المرأة ولا شئ احب إلي المرأة من المرأة ، جلست وقلبها يقلب صفحاته علي صفحات هذه المياه الساكنة نعم عمر فتي حضري حسن الصورة لا تعرف غيره كأن الأرض لم تنبت مثله ، نشأت مها وأبن عمها عمر في بيت واحد كما تنشأ الزهرتان المتعانقتان فاحب بعضها البعض منذ الطفولة ورغم ضيق الحال إلي ان حياة هاتان الزهرتان يخيل إلي الناظرين إليها أنها سعادة أستمدت من القصور والبساتين والذهب الامع والؤلؤ الساطع رغم أنها قرويين فقيرين
جلست مها تتذكر مستمدة ذكرياتها من مطلع الشمس وإقبال الليل وبريق النجوم ، نعم اتذكر علي شاطئ النيل والجلسات الحانية علي الأعشاب الناعمة تحت ظلال الأشجار الوارفة .
عادت مها إلي بيتها الريفي البسيط نابضة القلب متقلبة المشاعر ، في أثناء سيرها حدث لها حدثا عجيبا اعترض شاب طريقها واخذ يسألها من تكون ، ومن هيئة هذا الوسيم وملامحه التي تدل علي الثراء انتبهت مها إلي كلماته البراقة ولكنها تحدثت إلي نفسها هل تنسي عمر
هبط هذا الشاب الثري علي القرية متفقدا مزارعه فيها ، وكان يأتي إلي القرية من وقت إلي اخر فيقضي في قصرة الجميل بضعة أيام ثم يعود إلي موطنه حتي رأي مها فاستلهاه حسنها وشبابها فأصبح يفيض عليها حبا وامولا ويصور لها حياة القصور ويمنيها بالأماني الكبار حتي خضعت له كما تخضع كل أنتي غفل عنها راعيها واسلمها حظها إلي ذاك الذئب
استيقظ عمر صباحا يوقظ مها فلم يجدها فرابه الأمر وخرج يفتش عنها في كل مكان يسأل عنها الناس جميعا دون جدوي حتي اظله الليل فعاد حزينا وصرخ عمر صرخة مدوية هاتفا بإسمها حتي خارت قواه وظلت امه جاثية بجانبه تبكي علي حاله فقال لها
ماذا يبكيك يا أمي؟
قالت ابكي علي حالك يا بني
فقال لها إن كنت باكية فابكي علي احد غيري ، أما أنا فلست باك عليها ، كنت احبها لأنها تحبني اما الآن فقلبي كصخرة عاتية لا ينال منها شئ ، كانت دموعه تنسال واحدة تلو الأخري لقد كذبت مزاعم هذا المسكين هو لم ينسي مها ولا هدأت عن قلبه لوعة حبها ولكنها الغصة التي يغضبها المحب المهجور
فما زال يمشي حتي رأي كوكب الشمس يتناهض قليلا من مطلعه ويرسل اشعته الحمراء علي الكائنات فتنير ظلام قلوبهم وترقرق خيوطه بين خضرائها ودار بنظره فلمح في الافق بارقا يخطف البثر إنه لوح زجاج من القصر يعكس اشعته فاتعدل في مجلسه ووضع يده علي اطالعه كأنه يحول بين قلبه وبين الفرار هكذا لم ينتفع المسكين بنفسه بعد اليوم فقد ذهب بالحزن إلي ابعد مذاهبه
مضي الليل إلا قليلا ومها جالسة في شرفة بيتها تطالع الطريق وتحدث القمر
ايها القمر الذي يزين عنان السماء هانذا أراك في كل ليلة أنت تعلم ما انا فيه هل يعود لي عمر فننظر سويا إليك ونجلس بين أحضانك
أيها القمر المنير لقد كنت لقد كنت رفيقا في الأيام الموحشة هل تسطيع أن تحدثني كيف احواله واين مكانه هل يتذكرني؟ هل نلتقي قريبا ؟
هل يذكرني كما اذكره هل يحادثك عني كما احادثك ولم تزل تحادث القمر حتي انحدر بين أحضان السماء
وتقول لنفسها انا من تركت حبي من أجل المال فالجزاء من جنس العمل فقد أصبح هذا الشاب الثري يعاملها معاملة جافة قاسية ليس بها شفقة ولا رحمة
وفي صباح يوم جديد ايقظها من نومها بكل وحشية
اما زلت باقية هنا ؟
قالت لماذا وازدادت دهشة ولم تفهم ماذا يريد وقالت له
ماذا تريد أن أكون باقية ؟
قال لها في الشارع أيتها القروية فزوجتي قادمة اليوم وربما لا تحب وجود من يزعجها
وفي هذه اللحظات احست كان خنجرا اخترق قلبها واوصالها فلم تصح ونظرت إليه نظرة طويلة وقالت له أنا نادمة علي ما فعلت لقد تركت وحبيبي من أجلك وها انت ترميني للشارع ولكلاب الطرقات ثم ذهبت إلي غرفة ملابسها تبحث عن اثوابها القروية التي دخلت بها هذا المنزل وخرجت تحت ستار الليل تحمل هذه الفتاة بين جنباتها هموم العالم مطرودة ومن تولي طردها كانت تظن في ساعة أنها احب الناس اليه واصبحت من ساعة من فتاة شريفة إلي امرأة ملوثة وأصبح مستحيلا عودتها إلي قريتها
وظلت تمشي حتي جلست علي صخرة بالقرب من منزل هذا الظالم وراته في شرفته مع زوجته يتسامران ويذهبان بنظرهما حيث تذهب خضرة الأرض وتمتد زرقة السماء ويتقلبان في سعادة كأنه لم يراها يوما فوقفت والقت بنفسها في الماء وراها من الشرفة وأسرع إلي شاطئ النهر وحاول انقاذها ولكنها قد فارقت الحياة
مرت علي هذه القصة أعوام واعوام ولا زال اهل القرية يحفظونها جيدا حتي اليوم ويبكون ويقصونها علي بناتها عبرة يعتبرن بها من شرور الحياة