بقلم ✍️ د. محمد يحيى (كاتب ومدرس الميكروبيولوجيا والمناعة بكلية الصيدلة)
الناظر في تاريخ الأوبئة يجد نفسه يتقلب بين صفحات من الألم والدموع والمآسي وبين صفحات من الكفاح والتصميم والمثابرة على العثور على الدواء الناجع أو اللقاح الفعال.
ويجد نفسه قد امتلأت بالحزن والأسى عند مطالعة الصفحات المؤسفة الأولى ويجدها في المقابل قد امتلأت بالفخر والعزيمة عند مطالعة صفحات الكفاح الثانية والذي يمتزج بالفرح العارم عندما ينتهي الأمر بالنجاح وبشيوع الشفاء والتعافي.
ومن بين القصص الحافلة بهذه التقلبات الدرامية و المليئة بالنهايات السعيدة المشرقة هى قصة فيروس الالتهاب الكبدي سي.
كان فيروس الالتهاب الكبدي سي حتى الماضي القريب يمثل بعبعا مخيفا يبعث اسمه على التوتر و القلق. و كان شبح هذا الفيروس يخيم على كثير من المنازل حول العالم، و كان المصاب به يتلقى نبأ هذة الإصابة بمزيج من الحزن و إسقاط اليد، فبدون علاج حاسم او لقاح فعال، ظل هذا الفيروس يعيث و ينشر المرض و الهلاك.
ففي سبعينيات القرن الماضي، تأكد وجود عامل ممرض جديد مسئول عن حالات الالتهاب الكبدي المصاحبة لعمليات نقل الدم.
و بعد أن سادت فترة من الغموض والحيرة في البداية تجاه طبيعة هذا المرض الخطير، و بعد ان ظل هذا الفيروس ينتشر مع غياب وسائل التشخيص و العلاج، جاءت نهاية الثمانينيات من القرن الماضي لتشهد اكتشاف طبيعة وتركيب هذا الفيروس ولتمثل نقلة كبري في الطريق.
ولم تتوقف الجهود عند ذلك بل تتابعت جهود البحث العلمي الدؤوبة لتطور اساليب التشخيص وتوفر فرص لإكتشاف وجود الفيروس، كما توالت الجهود الحثيثة لتطوير علاجات لمقاومة هذا الفيروس الخطير، و أسفرت البحوث عن اكتشاف بعض العلاجات بالفعل و امتلأت النفوس بالتفاؤل الشديد و السعادة العارمة إلا أن توالي الايام كشف عن نسب تعافي أقل من المأمول و أسفر عن أعراض جانبية مؤلمة لتظهر الحاجة الى علاجات جديدة مرة أخرى.
وجاء العقد الثاني من القرن الحادي و العشرين ليشهد انبلاج فجر جديد في عالم علاجات فيروس الالتهاب الكبدي سي، حيث جاءت المنحة الإلهية بنجاح جهود العلماء في إكتشاف أنواع جديدة من العلاجات الحاسمة و المبهرة و التي تسمى بمضادات الفيروسات ذات المفعول المباشر. جاءت هذه الأدوية كمصباح علاء الدين الذي يحقق أمنيات المرضى و الأطباء حيث أظهرت تحقيق نسب تعافي مبهرة و آثار جانبية قليلة و فترة علاج قصيرة، الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية لرفع سقف الطموحات عاليا و لتضع هدف كان يُعد ضربا من الخيال حتى الماضي القريب و ذلك بإستهداف القضاء على هذا الفيروس بحلول عام 2030، و الأمر الذي رفع الآمال ايضا بإمكانية تكرار هذا الإنجاز مع أوبئة أخرى و تحقيق إنتصارات صحية حاسمة جديدة.
وقبل أن تُطوى صفحات هذه القصة الفريدة المتحققة في الماضي القريب والحاضر و قبل أن يسدل الستار على هذه الرواية الملحمية الواقعية فإنه لابد من أن تأتي كلمة النهاية مصحوبة بكلمات من الشكر والثناء والتقدير لهؤلاء العلماء والباحثين الذين استمعوا للآهات والبكاء فأنكبوا بكل تفاني على أبحاثهم و معاملهم لتخرج النهاية مشرقة جميلة ممتزجة بضحكات التعافي الصافية.