»» بقلم ✍️ أحمد رفاعي آدم
( أديب وروائي)
تناولنا في المقال السابق أول الأدلة على أزمة الحضارة الغربية في الوقت الراهن، وقلنا أن تهميشهم للدين بهذه الدرجة التي لم يتورعوا معها في الإساءة إلى السيد المسيح عليه السلام في حفل افتتاح أولمبياد باريس منذ أسابيع، وإصرارهم على إلغاء كافة معالم الدين من الحياة والإطاحة بالقيم السليمة والأخلاق الحميدة بدعوى الحرية دليلٌ واضح على انحطاط فكرهم وخراب عقولهم وهي بداية انحدار منحنى حضارتهم. واليوم نستكمل عرض الأدلة التي تؤكد ذلك الانحطاط فنقول وبالله التوفيق.
الدليل الثاني: زيادة القلق والشعور بالاغتراب
قد تبدو هذه النقطة غريبة وغير منطقية من النظرة الأولى، ولكن مع مزيد من الفحص العميق نلحظُ أن واحدة من أخطر الآفات التي بدأت تفت في عضض الحضارة الغربية رغم ما بلغته من شأوٍ عظيمٍ وتقدمٍ مادي ملحوظ آفة القلق والشعور بالاغتراب ما حدا بكثيرٍ من الشبان والفتيات في أكثر دول أوروبا تقدماً – ومن بينها فرنسا – إلى اللجوء إلى الانتحار هرباً من مثل تلك الأحاسيس السلبية، وبحسب تقرير نشره موقع alaraby.com في يناير الماضي فإن معدلات الانتحار في فرنسا ترتفع بنسب أعلى كثيراً من باقي دول الاتحاد الأوروبي، وتشير الأرقام إلى ١٧ حالة انتحار لكل مائة ألف من السكان في فرنسا، وهو معدل غير قليل.
وسبب تولد تلك المشاعر السلبية هو فقدان الهدف البعيد الذي من أجله يعيش الإنسان ويعمل. نعم إننا لو تصورنا إنساناً يقضي الحياة على هذه الأرض ثم يمضي بالموت إلى عدمٍ لا قيام بعده ولا قيامة، لكان هناك مكان فسيح لأسئلة السائلين: وأين الهدف البعيد الذي من أجله أعيش وأعمل؟ أهو لقمة اليوم لأصبح بها قادراً على أداء العمل يوماً آخر؟ ومن هنا نشأ في أهل الغرب ما نشأ من قلق ومن شعور بالاغتراب، فهو قلق من غياب الهدف الذي من أجله يعملون، وهو اغتراب لأن الواحد منهم يحس وكأنه انسلخ عن ذات نفسه ليصنع أشياء للآخرين. لا أنكرُ أننا نعاني من نفس المشكلة تقريباً لكن مع ثبوت ركن الدين ورسوخ تعاليمه وشرائعه في قلوب الناس يقل ذلك الشعور، وإن وُجِدَ سرعان ما ينتفي بالرجوع إلى الأنوار الدينية. تلك هي المعادلة الصعبة التي لم يعد في استطاعة الغرب أن يحلها بماديته البحتة وعلمانيته الفظة، إذ كيف تُقنع إنساناً باستمرارية السعي ومواصلة الكفاح بغير هدف أسمى وغاية نبيلة؟ وذلك – مجدداً – يؤكد على أن قتل الوازع الديني في قلوب أبنائهم وتقوية الجوانب المادية فقط لديهم خلقت أجيالاً غير مكتملة النضج وغير سوية الفكر وهو بدوره مسمار جديد في نعش حضارتهم بكل ملامحها.
قد يقول قائل: إن لدى القوم علوم عظيمة بهرت البشرية وصنعت لهم مجداً كبيراً ووضعتهم في مصاف الدول، وذلك يوجهنا إلى الدليل الثالث.
الدليل الثالث: علمٌ يضر أكثر ما ينفع
مما لا شك فيه أن العمود الفقري لنهضة أية أمة هو التعليم لما له من أهمية للإنسان والمجتمع في كل زمانٍ ومكان، ولطالما بهَرَنا التعليم الغربي بمناهجه وعلومه وأدواته وطرقه الحديثة – والحق يُقال – لقد برعوا في ذلك واحتلوا ترتيبات متقدمة في قائمة أفضل الدول تعليماً، لكن ذلك لا يعني أن التعليم والعلوم في بلادهم تخلو من السلبيات ونقاط الضعف والمشكلات، يكفي أن نعترف أن كثير من علومهم باتت تضر أكثر ما تنفع بشطحاتها التي انحرفت بإنسانيتهم عن جادة الصواب. خذ مثالاً لذلك شعار منظمة اليونسكو الذي يقول: (لمَّا كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام) وهذا الشعار – كغيره من شعاراتهم الرنانة والبراقة – يؤكد أهمية التعليم وفاعليته في تنقية عقول وقلوب ونفوس الناس، وتوجيههم إلى مسالك أفضل وأسعد في الحياة، فماذا حدث؟ لم ينفع الشعار ولم يُعمل به في مدارسهم وجامعاتهم التي لم تخرِّج للعالم إلا صناع السلاح ودعاة الحرب ومنافقي المبادئ الإنسانية، ونظرة سريعة إلى موقف الغرب من حرب إسرائيل الغاشمة على شعب فلسطين وإبادته لأهل غزة وستدرك أن تعليمهم لم يبنْ حصون سلام ولا حتى مجرد أسوار خشبية!!
وعملاً بالحقيقة العلمية التي لا جدال فيها: “إذا صحت المقدمات صحت النتائج”، نستطيع أن نقول أن سوء نتائج التعليم الغربي (على الأقل في الجانب السياسي والأخلاقي والاجتماعي) يؤكد على انخفاض مستوى فاعلية التعليم ومخرجات الفكر عندهم. ولكي نكون منصفين يمكن القول بأنهم تفوقوا في العلوم وفشلوا في الثقافة، وشتان بين المصطلحين، فإن العلوم هي وسيلة الإنسان لتغيير بيئته، وأما بالثقافة فهو يغير من نفسه. لقد نجحوا في تطوير معيشتهم وتغييرها (مادياً) للأفضل ولا شك، لكنهم فشلوا في تطوير أخلاقهم وسلوكياتهم وتواصلهم مع الآخر واحترام ثقافته الخاصة. وما ذلك إلا دليل على بدء هبوط منحنى حضارتهم الذي صعد كثيراً في القرنين الماضيين.