بقلم ✍️ د.حنان سالم
(دكتوراه الفلسفة المعاصرة – كلية الآداب -جامعة العريش)
ظهرت التكنولوجيا الرقمية في عصرنا الحالي وقد غزت كل تفاصيل الحياة وبصورة فاقت الخيال،وتتطور بشكل سريع لا نكاد نلحق بها، كما أن لها آثارا مختلفة علي حياتنا منها الإيجابي ومنها السلبي.
وانطلاقا من التطورات الرقمية السريعة، وتوالي الاختراعات والتقدم العلمي الهائل بات الاعتماد التام على شبكة الإنترنت والخدمات الرقمية صفة العصر ،وبديلا للقوة البشرية علي وعد بخدمة البشرية، وتحقيق التنمية المستدامة لكل دولة وفق استراتيجيتها المستقبلية في شتي مناح الحياة.
ولا يختلف اثنان علي أن الناس جميعا يستفيدون من التسهيلات التي تقدمها التكنولوجيا الرقمية الحديثة في مختلف ميادين الحياة خصوصا في مجال الاتصال والتواصل بين الناس من خلال تطبيقات التواصل الاجتماعي الواتس آب والماسنجر ،وغيرها.
فضلا عن أن هذه التسهيلات والتطورات السريعة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي و”الروبوتات” والتطبيقات الذكية، طالت كل شيء في الحياة في مختلف المجالات: صناعة، زراعة، تجارة والتسوق عبر الإنترنت، أيضا التعليم أون لاين، إلا أنها وفرت الرعاية الصحية الرقمية في بعض الدول لتوفير الجهد والوقت والأمثلة في هذا كثيرة.
ووفقا لما فرضته متغيرات العصر من ضرورة التوجه نحو التحول الرقمي في مختلف المجالات فرضت أيضا أنماطا وصورا جديدة لتقديم الخدمات والتسهيلات في مجال الرعاية الصحية والطبية الرقمية في العالم الآن فيما يسمي ” telemedicine ” التطبيب عن بعد ” عبر منصات رقمية باستخدام الهاتف، منها: برنامج “الرعاية الصحية المنزلية”في استراليا والهند واستراتيجية قومية “صين صحية لعام 2030م” Healthy China 2030″، و” إنترنت الأشياء الطبية” Internet of Medical Things” في اليابان، وأوروبا وتطبيق الصحة الرقمية في الإمارات وفي الكويت والسعودية، وغيرها من خدمات الصحة الرقمية عبر العالم.
وكثيرا ما نسمع عن التعليم عن بعد، التدريب عن بعد، التواصل عن بعد، والعمل عن بعد وجميعها تشترط وجود وسيط بين طرفين لنقل الرسالة هو “الإنترنت”، وهذا يتطلب بدوره معرفة الطرفين بكيفية إستخدام الوسيط والتعامل معه لتحقيق الهدف المرجو من عملية نقل الرسالة أو المعلومة، ما يستوجب أيضا وعي المرسل والمستقبل بأهمية العملية والاستفادة منها.
فهل يتحقق ذلك في عملية ” التطبيب عن بعد ” فما الهدف منه، وكيف تتم هذه العملية؟ وماهي إيجابيات وسلبيات هذا المشروع؟ وهل يستفيد كل الناس منه؟ هذا ما طرحه مؤتمر “التطبيب عن بعد” التطبيقات والتحديات بكلية الطب جامعة قناة السويس مؤخرا.
التطبيب عن بُعد يعد أحدث صيحة للتطوير في مجال الرعاية الصحية وهو خطوة تليها خطوات أخري أهم كالتشخيص عن بعد والعلاج أون لاين، والمتابعة الرقمية باستخدام تقنيات وبرامج وتطبيقات الهاتف المحمول أو كما يقال عنه “الصحة الجوالة” أو الإدارة الذاتية للخدمات الصحية باستخدام تقنيات وبرامج وتطبيقات الهاتف الجوال” mobile health (mHealth) ، بحيث يتسنى لكل من الطبيب والمريض التعامل معا والمتابعة عبر وسائل التواصل التكنولوجي سواء الإتصال المباشر بالطبيب أو من خلال مكالمات الفيديو عبر الواتس آب أو الإيميل.
فالصحة الرقمية كما تحدث عنها د. بهاء درويش نائب رئيس اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا التابعة لليونسكو بالمؤتمر هي: استراتيجية عالمية تتجه إليها معظم دول العالم، وأحد أهداف التنمية المستدامة ٢٠٣٠م في مصر من أجل تغطية صحية شاملة وعادلة لجميع المرضي، في مصرنا الحبيبة وتعد تجربة “مستشفى جامعة عين شمس الافتراضي” مثالاً على الرعاية الصحية عن بعد.
وبعيداً عن المستوى الرسمي، فثمة شركات عديدة تعمل في مجال الصحة الرقمية “دي – كيميا “، ومقرها القاهرة، وأيضا شركة “شزلونج” التي أطلقت منصة للصحة العقلية تمكن المرضى من التحدث إلى معالجيهم عبر الإنترنت في خصوصية وفي أي وقت ومكان ، وقد أثبتت نجاحا باهرا خلال أحداث جائحة كورونا في مصر وعلي مستوي العالم.
أما بعد الجائحة وفي هذه الآونة الاخيرة توصف خدمة التطبيب عن بُعد (تلي ميدسن ) كدواء جيد لعلاج الأمراض المعقدة والحرجة خلال عصر الإنترنت، فهو بحر من وسائل عديدة وحديثة وفعالة للعلاج بطريقة توفر علي المريض الوقت والجهد وجودة أعلى من العناية بتكلفة أقل بحيث يدخل المريض في الرعاية والعناية في مستشفي افتراضي خاص له في بيته.
وأتصور بهذه المواصفات أن التطبيب عن بعد يعد بشري سارة و «سلم الشفاء » للمرضي بخاصة أصحاب الأمراض المزمنة والمعقدة والمانعة من الحركة بشتي صورها والأمراض المستعصية التي تحتاج للسفر إلي الخارج.
وبالرغم من وجود تخصصات تحتاج إلي التجارب السريرية المباشرة مثل الجراحة والعظام والأنف والأذن والحنجرة وغيرها.. والتي يصعب معها الاستفادة من مشروع التطبيب عن بعد إلا أنه مع تقدم التقنيات أعتقد أنه يمكن أن يطبق في مختلف التخصصات، بحيث يقوم فريق العمل بتشخيص المريض وتوصيله بالاستشاري المتخصص في مختلف أنحاء العالم عبر الإنترنت عبر منسق صحي يتواصل مع الطبيب في الخارج. وبمساعدة الإنترنت، يمكن للجميع البقاء في البيت والتواصل المباشر مع خبراء في المستشفيات ذات الشهرة العالمية للحصول على آرائهم الطبية الموثوقة وحينئذ يقرر الطبيب إذا مايلزم الأمر الذهاب إلى المستشفيات أو الاستفشاء بالمنزل.
بالتالي ومن وجهة نظري أن كل هذا يتطلب الحديث عن مستقبل التطبيب عن بعد وإقبال الناس عليه مما يستنطق عدة تساؤلات مهمة: هل تثق الناس في العلاج عبر تطبيقات التواصل الإجتماعي وتكتفي به دون الذهاب لرؤية الطبيب؟ وعلي فرض ثقتهم هل يستطيع جميع المرضي التعامل مع الإنترنت بسهولة ويسر للتواصل مع الطبيب؟ وهل البنية التحتية للإنترنت في تلك المناطق جيدة لإتاحة التواصل؟ والعديد من التساؤلات حول هذا الأمر.
هنا لابد من الحديث عن وضع الصحة عالميا، فهناك ثورة صحية في عالم الطب تمخضت عنها نتائج مهمة ومتطورة مثل العناية المركزة الافتراضية والمستشفي الافتراضي، والتداوي عن بعد.
وعليه يأتي دور وزارة الصحة في مصر في الموافقة علي مشروع التطبيب عن بعد واعتماده لكسب ثقة الناس في التعامل معه.
وأتصور أن التنافس في مجال الصحة فى المستقبل لابد أن يكون علي أساس “التعاون” أي من يكون أكثر تعاونا وليس علي الجودة في الخدمة باعتبارها شيئا أساسيا لاخلاف عليه ،ولابد أن يكون جيدا في جميع الأحوال.
ووفقا لمؤتمر كلية الطب جامعة قناة السويس فإن التطبيب عن بعد يعتبر استراتيجية لتحسين الرعاية الصحية، وأحد أهم البدائل للممارسات الطبية في مصر، لتعزيز الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية للسكان الأكثر عشوائية في المناطق النائية والمعزولة ،لأن الغاية منه هي تسهيل وصول الخدمات للمرضى الذين لا يجدون إلى ذلك سبيلا بسبب موقعهم الجغرافي؛ خصوصا في المناطق التي لا تتمكن من الحصول على خدمات الاستشفاء عن قرب. فالتطبيب عن بُعد أداة فعالة في سبيل حل مشكلة غياب الرعاية الصحية عن قرب” مع التركيز على القضايا القانونية والتنظيمية المتعلقة بهذه الممارسة، وخاصة فيما يتعلق بضمانات الخصوصية وسرية البيانات الخاصة بالمرضى، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بمزاولة نشاط التطبيب عن بعد.
فلا ريب أن هذا المشروع له عدة مزايا:
— إذ يمكن أن يساعد في التغلب على النقص في الطاقم الطبي بسبب السفر للخارج.
— تعزيز عملية تدريب الكوادر في قطاع الصحة من خلال التعلم الإلكتروني.
— المساعدة في تحسين البنى التحتية الحالية عن بعد،بالإضافة إلى مزايا أخرى.
وعليه نصل إلي نتيجة مهمة من وجهة نظري لايجاد حلول ومقترحات لتذليل الصعوبات والمعوقات التي تواجه هذا المشروع – والتي كانت عنوانا لمشاركتي في مؤتمر جامعة القناة – علي سبيل المثال:
— ضرورة نشر ثقافة التطبيب عن بعد من أجل رفع مستوى الوعي بتحديات ومزايا التطبيب عن بعد عن طريق عدة وسائل متاحة مثل الإعلام والمدرسة والمجتمع المـدني وجمعيات الشباب المتطوعين لنشر إيجابيات المجتمع.
— ضرورة تعميم هذه الممارسة في مناطق معينة من الوطن مثل المناطق الصحراوية، والقري والنجوع البعيدة والمناطق النائية.
— زيادة حجم تأثير القوافل الطبية التي تنظمها الوزارة وتفعيل دور المثقفات الصحية لنشر الوعي بأهمية التعامل بإيجابية مع الطاقم المسؤل عن تسجيل البيانات وتوصيل المريض بالطبيب.
— محو الأمية التكنولوجية لمن قد تعوق مخاطبتهم تقديم أي خدمة طبية لهم ويمكن إعلامهم بها من خلال الرسائل النصية عبر الموبيل بإرسال مثلاً رسائل صوتية، فثمة تطبيقات حديثة تكتب مايقولونه كرسالة نصية.
— لما كان اعتماد العالم يزداد باستمرار على التكنولوجيا الرقمية، فإن هذا يعني أن العالم منقسم وأن انعدام المساواة بين أبناء البشر يزداد أكثر من أي وقت مضى. فإذا كان هذا هو الحال فيما يتعلق بالإنترنت، فإن هذا يعني ببساطة عدم وصول خدمات الصحة الرقمية لكل من لم يصل إليه الإنترنت، وانقسام الناس بين من تُمكنه التكنولوجيا من الحصول على خدمات الصحة الرقمية ومن يحرمه عدم وصول الإنترنت من هذه الخدمات.
ومن هنا تأتي أهمية رفع الوعى النفسى لدى الأفراد من خلال برامج توعوية وإعلامية حول التطبيب عن بعد وكذلك ضرورة رفع الوعي لدي المتلقي من خلال نشر ثقافة التربية الطبية لتحقيق تحول إيجابي نحو الإدارة الذاتية لعلاقاتهم المختلفة.
ولا ريب أن لمنصات الإعلام والأسرة والمؤسسات الدينية والمجتمعية مهام خاصة فى توجيه الأفراد نحو تغير العلاقة بين الطبيب والمريض من علاقة تواجد فيزيقي مباشر للمريض أمام الطبيب إلى علاقة يتوسط فيها “الإنترنت” ويتيحها طوال اليوم.
وتتطور التكنولوجيات الرقمية وتثبت نجاحاً يوماً بعد يوم ولكنه نجاح يتطلب تدريباً على مناهج الاستخدام المستفيدين من هذه التكنولوجيات.
وقد يكون السبب أن التطبيقات الطبية تحتاج أجهزة محمول تتطلب انترنت ذا سرعة معينة لا تتوفر في هذه القرية. هذه الأمثلة جميعها تثير التساؤل: إلى أي مدى تعد ثورة الصحة الرقمية بتحقيق العدالة الاجتماعية؟!
كما يوجد بعض الأطباء يرفض التعامل عن بعد مع المرضي لسببين الأول: مخاطرة التعرض للمساءلة القانونية بسبب عدم وجود قانون حتي الآن يحمي المشروع والطبيب ويحفظ له حقوقه المادية والمعنوية، لأن ببساطة أحيانا يكون المحادثات عبر وسائل التواصل دليل ضده عند حدوث أي خطأ طبي
والسبب الثاني هو عدم كفاءة المريض في استخدام وسائل التواصل التكنولوجي أو قلة الخدمات التكنولوجية والأمية الرقمية.