# من أول السطر
الدراما السينمائية ستظل أحد أهم أدوات وروافد القوي الناعمة الفاعلة، والبناء الفكري والثقافي والوجداني، والتواصل الحضاري بين الشعوب.
وأن تعبر السينما عن الواقع بحلوه ومره وتعالج قضايا اجتماعية وإنسانية في إطار موضوعي ومتزن دون تهوين أو تهويل أو إجتزاء ، دون تزييف للحقائق فهو عين الحكمة والعقل والمنطق ،باعتباره أن هذا النهج أهم مرتكزات المصداقية والإقناع والإبداع الفني اللامحدود.
وفي تقديري أيضا أنه من أهم وسائل توثيق حوداث التاريخ وتدعيم أواصر المعرفة ودعم التراث الإنساني وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر.
أما أن يتجاهل العمل الدرامي الفني الوقائع الأساسية بتقديم سردية جديدة في الشخوص والبناء الدرامي،فهو يثير الجدل حول المقاصد الحقيقية للعمل الفني ،بالتفسير الخاطيء أو الفهم المغلوط لبعض المشكلات ،والتركيز على الجوانب السلبية دون اعتبار لما تسببه هذه الأعمال من أزمات سياسية لا مبرر لها،وهو ما حدث بين المملكة العربية السعودية والهند عشية تداعيات عرض الفيلم الهندي “حياة الماعز”.
ولا ريب أن بين الواقع وبين سردية القصة خيوط متشابكة ،وأتصور أنه من عبقرية البناء الدرامي التعبير الصادق عن الحادثة وعن التجارب الإنسانية والذاتية لشخوصها مع إبراز كافة الجوانب الإنسانية بتناقضاتها والتجسيد الصادق لطبيعتها دون تزييف أو مبالغة في إظهار مسالبها
بين الخير والشر ،فنحن هنا في عالم متشابك المصالح، متابين الرؤي والقناعات،ولسنا في مدينة فاضلة تتغني ليلا ونهارا بالمثل والأخلاق وإقرار الحق والعدل!.
كما أن محاولات تسييس بعض المشكلات الاجتماعية والحوادث الفردية وتجسيدها في إطر وأثواب عامة ،هو أمر لا يخدم أهداف العمل الفني، ويخرج به من نطاق الإبداع إلي عوالم أخرى!.
وفي هذا السياق أحدث الفيلم الهندي “حياة الماعز” جدلا واسعا في مختلف الأوساط الفنية الأممية ،وفي كثير من المجتمعات العربية والإسلامية.
وحياة الماعز ( The Goat Life) هو فيلم درامي هندي من صنف أفلام البقاء على قيد الحياة، صدر باللغة الماليالامية في مارس 2024.
والفيلم إنتاج دولي مشترك يضمّ شركات في الهند والولايات المتحدة، أما سيناريو الفيلم فمقتبس من رواية أيام الماعز الأكثر مبيعا لعام 2008 بقلم الروائي الهندي “بنيامين” مع كثير من التغييرات في الحبكة الدرامية، الرواية تستند إلى قصة حقيقية لعامل هندي من ولاية كيرلا جنوب الهند يُدعى “نجيب محمد”، جرى استغلاله وتعرّض لظروف صعبة ومريرة واُجبر على رعي الغنم في منطقة صحراوية ومعزولة بعد قدومه للسعودية انتهت أخيرا بهروبه ،ومن ثم ترحيله إلى بلاده، وهي واحدة من آلاف القصص لعمال عاشوا ظروفً مشابهة في الصحراء بحسب ما أورده منتجوا الفيلم.
وقد رهن نجيب العامل الهندي الذي منزله وباع ممتلكاته ليحصل على تأشيرة عمل في إحدى الشركات داخل المملكة العربية السعودية، تبدأ الحكاية بعد وصوله برفقة صديقه “حكيم” إلى المملكة، يتأخر كفيلهم بالوصول إلى المطار، وبسبب بساطتهم وعدم تمكنهم من اللغة، يستغل الفرصة رجل سعودي صارم قاسي الطباع وعنيف المعاملة، ويوهمهم أنه الكفيل، ثم يأخذهم معه نحو الصحراء القاحلة ليترك الصغير “حكيم” في مزرعة أحد أصدقائه، ثم يصطحب “نجيب” بطل الحكاية إلى مزرعته، ليفاجئ نجيب عند وصوله بوجود عامل هندي مسنّ ورث الحال يظهر أنه تعرّض سابقا لنفس الحال.
وخلال ثلاثة أعوام، تحوّل فيها نجيب إلى شخص آخر، تغيّر شكله ومظهره، وتأثر ذهنه وقدرته على الكلام، فقد تعرّض لمعاملة قاسية وصارمة وحياة صعبة من قبل كفيله الخاطف، وأصبح يعيش حياة الماعز، يأكل معهم، ويصدر بعضا من أصواتهم، كذلك عثر على العامل الآخر ميتا وقد أحاطت به النسور في الصحراء!.
ويلتقي بصديقه “حكيم” الذي يعيش ذات الحال مصادفة في الصحراء وبرفقته شخص آخر ذي أصول إفريقية يُدعى “إبراهيم” من الممكن أن يساعدهم بالهروب، وفي رحلة الهرب يعانون ثلاثتهم مشقة وأهوال الصحراء، ويموت الشاب الصغير “حكيم” من الحر والعطش والتعب، ثم يختفى الشاب الإفريقي لاحقا أثناء عاصفة رملية، ويصل أخيرا “نجيب” إلى الطريق وهو في حالة إعياء شديدة ويوشك على الهلاك.
وبعد محاولات لطلب النجدة، يتوقف له شخص كريم ويصطحبه معه إلى المدينة ويوصله إلى المسجد، وهناك يلتقطه بعض العمال الهنود بأحد الفنادق شاركوا في إنقاذ حياته.
ويدرك بعدها “نجيب” أنه كان مخطوفا وهذا ليس كفيله، وبعد قضاء ثلاثة أشهر في السجن، يرحّل نجيب إلى الهند.
ويختتم الفيلم بعبارة: «هذه ليست قصة نجيب فحسب، إنما هي حزن آلاف الأشخاص الذين فقدوا حياتهم في الصحراء، وتركوا بلادهم وديارهم من أجل البقاء أحياء»!.
ووفقا لما مثبت في الجهات الرسمية بالمملكة وما رواه بعض المعاصرين من أبنائها ،فإن القصة الحقيقية جرت وقائعها بمنطقة حفر الباطن في تسعينيات القرن الماضي ،قبل مايزيد عن ثلاثين عاما وتختلف في كثير من وقائعها عن أحداث الفيلم مما أثار الشك حول أسباب الترويج للفيلم في هذا التوقيت وطرح العشرات من علامات الاستفهام عن اهدافه ومبتغياته الحقيقية بعد تشارك جهات إنتاج أمريكية وهندية في إنتاجه ، وتقديمه للعالم بهذه الصورة المشوهة،وهو ما أثار حفيظة أبناء المملكة العربية السعودية.
وفي القصة الحقيقية لم يكن الهندي مسلما،
لم يكن له شريك في السفر بل هو من تعرف على هندي مثله يعمل بمرعى يبعد عنه بضعة أميال عندما كان يرعى أغنام الكفيل فصادقه وصار يفهم منه اللغة والألفاظ وبدأ يتعلم منه كيفية العمل.
ولم يشجعه الهندي الآخر على الهرب، هو فقط أخبره أن يطلب نقودا وأجرا مثله من كفيله المزعوم.
وفي اصل القصة أنه عندما طلب مرارا وتكرار من الكفيل أجره، رفض الكفيل، فطلب منه أن يتركه يذهب فرفض أيضا، وعندها جن جنون الهندي حمل عصا من حديد وقتل الكفيل بها، ولما تأخرت عودة الكفيل لأهله جاءوا ليبحثوا عنه ووجدوا جثته، وعندما أبلغوا الشرطة علموا بحقيقة الجريمة وحقيقة ظلم أبيهم للرجل الهندي.
وتم القبض على الهندي وحُبس، ولكن عندما عرف أهل الحل والعقد بالبلدة ومحافظها قصة الهندي المغدور المظلوم جمعوا له نقود الدية “170 ألف ريال”.. وذهبوا لأولاد الكفيل وورثته وأخبروهم بحقيقة ظلم أبيهم للرجل واستعباده له لأكثر من خمس سنوات، وأن ما قتله الهندي إلا من شدة قهره، وانتقاما لنفسه.. فتشاور الأولاد وسألوا أحد الشيوخ: يا شيخ هل على أبي دين لهذا الرجل؟
قال الشيخ: نعم عليه الكثير.. فتشاوروا وأخبروا الجمع بأنهم سامحوا الهندي لله، ولا يريدون منه دية علّ ذلك يغفر لأبيهم ما فعله بالهندي..
فلما ذهب الجمع للهندي في محبسه وأخبروه ، ذُهل الرجل، وفوجئ بالجمع يعطونه الدية التي جمعوها، ويخبروه أن بإمكانه أن يبدأ مشروعا في بلده بهذا المبلغ.. فتوتر الرجل وسأل أليس الكفيل المزيف مسلما مثلهم، فأخبروه أنه “فرد” وتصرفه الخاطئ لا يعبر عن الإسلام، والإسلام هو من شرع الدية، وشرع العطاء للمحتاج ولو كان آثما ،فإذا بالرجل يُسلم في الحال.. معلنا إسلامه وسط محبسه، ليعود لبلده مسلما غنيًا كريما.
وأتصور أن الفيلم من الممكن أن يعاد إنتاجه وكتابة قصته والسيناريو الفعلي وفقا لحوادثه الثابتة، وبما يحتويه من مفارقات ومفآجات وإثارة ونهاية منطقية.
كما أن الصورة المضيئة للقصة الحقيقية طمست بحرفية فنية مقصودة،وهي آفة تعاني منها الأفلام السينمائية ذات الطبيعية الدولية أثناء معالجة قضايا الشعوب العربية والاسلامية،هناك العشرات من المآسي والقصص الإنسانية والتجاوزات في حق الأقليات المسلمة في الهند نفسها يندي لها الجبين خجلا وأسفا،لكنه لا تحظي بتعاطف ضمير العالم الغائب ،والمغيب أحيانا وبفعل فاعل علي كافة المحاور الإنسانية!.
وعلي الجانب الآخر تظل تجاوزات الكفيل هي حالات فردية وأخطاء بشرية ،يقع في شراكها بعض النفعيين وأرباب المصالح بعيدا عن الاعتبارات العقيدية أو الطائفية.
ومنذ مارس 2021 اتخذت السلطات السعودية عددا من الإجراءات حول إلغاء نظام الكفيل،مما انعكس إيجابا علي سوق العمل، وعلي ضمان حقوق الوافدين للعمل من مختلف الدول.
كما أطلقت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالمملكة مبادرة لتحسين العلاقة التعاقدية وهي إحدى مبادرات برنامج التحول الوطني السعودي ، والتي بموجبها يحق للعامل حرية التنقل الوظيفي بين منشآت القطاع الخاص ، وأيضاً خدمة الخروج والعودة والخروج النهائي ، والقضاء على مايسمى ببلاغ الهروب الكيدي ، وقصر مدة التقاضي في حالة وجود مشاكل عمالية وذلك بتحويل المشاكل الى المحاكم العمالية مباشرة ،علاوة عن إجراءات وخدمات أخرى أغلبها يصب في مصلحة العامل.
كما أنشأت المملكة العربية السعودية اللجنة الوطنية للجان العمالية التي أشهرت بقرار مجلس الوزراء السعودي رقم (12) بتاريخ 8 محرم 1422 ، والذي يسمح للعمال بتشكيل لجان عمالية في أماكن العمل التي يعمل بها أكثر من (100) عامل سعودي ، وتهدف اللجان الى إيجاد وسيلة للحوار بين صاحب العمل والعاملين من جميع الجنسيات لتحسين مستوى أداء العمل وإزالة المعوقات الفنية والمادية التي تحول دون ذلك ، كما ان إختصاص اللجنة الوطنية للجان العمالية تقديم توصيات بشأن القضايا العمالية مثل تحسين ظروف العمل ، ومعايير الصحة ، والسلامة ، والتدريب وذلك بالتنسيق مع وزارة الموارد البشرية والتنمية الإجتماعية.
وعلي لسان عادل حنفي نائب رئيس الإتحاد العام للمصريين بالسعودية أعرب أبناء مصر المقيمين على أراضي المملكة العربية السعودية رفضهم لفيلم (حياة الماعز) جملة وتفصيلاً،مؤكدين أنه يحتوي معلومات مغلوطة ومضللة لواقع المقيمين على أراضي المملكة من جميع الجنسيات.
كما أكدوا أن الجالية المصرية وباقي الجاليات المقيمة في المملكة تتمتع بكافة حقوقها التى يكفلها لهم قانون العمل السعودي.
وأوضح حنفي أن نظام العمل بالمملكة يعتبر من أفضل أنظمة العمل على مستوى العالم ، وفي تطور مستمر بما يخدم مصلحة العامل وصاحب العمل وفقاً للمعايير والقوانين الدولية.
وبعيدا عن السردية المنقوصة فإن رمزية الفيلم في معانيها الإنسانية الدقيقة، لا يختلف عليها اثنان من أحرار العالم ،لكن تعمد تزييف الحادثة وتجاهل بعض تفاصيلها فهو ما سبب غضبة أبناء السعودية،وغضبة المشاهد العربي بصفة عامة.
ومن قراءة لتداعيات الأحداث علي المستوي الأممي فأتصور أن العرب أمسوا في مرمي سهام تشويه الصورة الذهنية وفقا لاستراتيجيات تزييف الواقع والهدم والفوضي الخلاقة، ولا سبيل إلا بتوعية الأجيال الجديدة من مخاطر هذه الأعمال وتوظيف الطاقات الفنية والمادية العربية لإنتاج أعمال إبداعية بهوية عربية تقدم الحقيقة الكاملة دون تزييف أو تزيين أو تحريف.. وإنا لقادرون بإذن الله!.