إذا كان الجنوب اللبناني هو الساحة التي تتحرك فيها غالبية إبداعات عبد المجيد زراقط، فإن المقاومة هي البعد الأهم في هذه الإبداعات.
ولد زراقط في قرية مركبا، قضاء مرجعيون، جنوبي لبنان. على الرغم من تنقله بين قريته في الجنوب، وبين العاصمة بيروت، ومدن لبنانية أخرى، فضلًا عن بلاد خارج الحدود، في مجالات التعلم والتدريس والمشاركة في الملتقيات العلمية، فإنه ظل مقيمًا – غالب أوقاته – في الجنوب. حياته – كما روى لي – ريفية تمامًا، في البيت المحاط بالخضرة.
زاوج زراقط بين السرد الإبداعى والنقد. صدر له العديد من الكتب التى حققت له مكانًا ومكانة بين كتاب العربية، أشرف على الكثير من الرسائل الأكاديمية التي تناولت ما درسته باعتبار انتسابه إلى الإبداع العربي، وبتعبيره عن القضايا العربية في إنسانياتها المختلفة.
أضاف زراقط إلى دراساته النقدية وإبداعه، إبداعًا يتجه إلى الطفل العربي، وعشرات القصص القصيرة التي شكلت مجلدات كاملة، نبضها هموم الإنسان العربي، آلامه وآماله وأحلامه وتطلعاته، جاست القصص في عالم الطفل بتفصيلاته ودقائقه، واتجهت – في الوقت نفسه – إلى عقل الطفل ووجدانه من خلال مغايرة واضحة للكتابات التي تزعم التعبير عن الطفل العربي. وكما يقول زراقط فقد جاء إلى أدب الأطفال من التجربة الحياتية، حيث كان يروي لابنه – في ليالى القرية الطويلة – حكايات لقيت لدى الصغير قبولًا، ثم بدأ بنشر تلك الحكايات، فلقت ما جعله يواصل الكتابة فى هذا المجال.
كتب زراقط عن إبداعات وظواهر ثقافية فى امتداد الوطن العربى. قرأ، وناقش، وحلل، وتوصل إلى آراء ونتائج أضافت إلى وجهات النظر النقدية، وساعدت حتى القراء العاديين على فهم المستغلق، والتعرف إلى جماليات الإبداع، تقديره أنكل عمل إبداعى إنما هو محصلة خبرة خاصة عاشها المبدع، أو عاشها سواه، فى لحظة ما، وحاول من ثم أن يكتبها من خلال تضفير – إطاره التلقائية ما أمكن – بين الحدث والشخصية، أو الشخصيات، والمشاعر والأحاسيس والأفكار. فضلًا عن الجماليات التى تعد بعدًا مهمًا فى العمل الإبداعي.
أجد فى عبد المجيد زراقط مثلًا للمثقف الذى يدرك دوره. بالإضافة إلى عمله الأكاديمي، وإسهامه اللافت في الكتابات النقدية العربية، فإن الإبداع – في المحصلة النهائية – تعبيرعن بشر ومجتمع وقضية، ليس الإبداع تجديفًا في المطلق، لكنه يلتحم ببيئته بصدق، بالقضايا التي تحاصره ويعانيها، ويعبر عن ذلك بالصدق نفسه، شريطة أن يدرك الفنان مقومات الإبداع الفني إطلاقًًا، وأن تكون الهموم التي يتناولها – على نحو أو آخر – هي هموم الإنسان في كل مكان. ولعلي أشير إلى قول جونتر جراس: مادام لدينا أدب ، فهو فى حالة مواجهة مع الأمور السياسية “.
***
المصيدة هي أحدث إبداعات عبد المجيد زراقط. عن فترة الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، ومواجهته للمقاومة التي لم تقتصر على محاربة الاحتلال وعملائه، بل امتدت آفاقها إلى القضية الفلسطينية، وقضايا الأمة العربية بعامة.
إذا جاز تشبيه العمل الإبداعي بالوتد الذي يتفرع منه أغصان وأوراق، فإن وتد هذه الرواية هو المدرس نبيل عامل – الاسم لا يخلو من دلالة – من أبناء الجنوب اللبناني، تنقل بين مدنه وقراه طالبًا ومدرسًا، يمتلك معرفة وافية بالتراث العربي، ويعد رسالة لنيل درجة الدكتوراه وهو ما حفزه لمجاوزة التدريس إلى أنشطة أخرى، فهو يكتب في الصحف، ويؤلف الكتب، ويعمل محررًا في دور النشر، ويعد مشروعًا يعرّف بالشعراء الذين همّشتهم الثقافة العربية القديمة والحديثة، بالإضافة إلى مشروع ضخم لتحقيق كتب التراث ( بالمناسبة: محمد تيمور وليس شقيقه محمود هو رائد القصة المصرية القصيرة بقصته ” في القطار” التي نشرت في مطالع القرن الماضي ). يصف نفسه بأنه ليس فاسدًا، ويحارب الفساد، ولا يحب العمل الإداري، ويحب التعليم، ويرى أنه ليس من مستقبل أمام الوطن إلّا الطلاب الذين يشكلون جيل المستقبل. وتبين شخصية نبيل عن ثباتها الانفعالي، وصرامتها، وحسن تصرفها، عندما دخل الفصل للمرة الأولى، فواجهه صخب الطلبة. ظل ساكنًا، صامتاً، حتى هدأت الأصوات، ثم قال: نتعارف أولًا، أنا نبيل عامل. وقدم نفسه. حتى عندما اختطفه العملاء، وأقدموا على تعذيبه، لم يتنازل عن قيمه، ولا إصراره – بعد دخول جيش الاحتلال – على المقاومة.
واللافت أن الطلبة الذين حاولوا إغضاب نبيل عامل حتى لا يدرس لهم، هم الذين أضربوا مطالبين بعدم إبعاده عن المدرسة، ما أراده المدير فريد علام.
أتاحت لنبيل طبيعته المحبة، الخيّرة، وإصغائه للرأي المغاير، صداقة أبناء الإقليم، والإفادة مما يمتلكون من الخبرات.
وحين اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان، واحتل منطقة جنوب الليطاني، انتقل نبيل إلى العاصمة بيروت، واختار لسكناه شقة في حي شعبي، وترك العمل السياسي المباشر، وتفرغ للعمل الثقافي.
الأصوات متعددة، لكن الصوت الأوضح هو صوت نبيل عامل. تبدأ معظم الفصول بصوت شخصية مشاركة، يعقبها، أو يداخلها، صوت نبيل عامل، يستكمل رواية الأحداث.
ظني أن شاغل عبد المجيد زراقط في هذه الرواية هو شخصية نبيل عامل، هي الوتد، والمتن، والشخصية المحورية التي تمثل الشخصيات الأخري هوامش تعمق من إيجابية تأثيرها: صفية عالم وصفت نبيل بأنه صديق عزيز، يحب، لكن قلبه مشغول بزوجته وأولاده وكتاباته ( على الرغم من تكرار الحديث عن أسرة نبيل عامل، الزوجة والأبناء، فإنهم يغيبون عن المشهد الروائي )، وترد على تلميح زميلتها هند بأنها على علاقة بنبيل، بالقول: الأستاذ نبيل مثل أخي الكبير، آتي معه في الصباح إلى المركز لأتفادى زحمة السير. قصرت علاقتها به على الصداقة والتلمذة، ثم تبعته بالانضمام إلى إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية. الشعور نفسه تملك فريدة كامل، زميلته في مركز الأبحاث. تعلقت به، وشعرت بالأمان في قربها منه ” أحبه وأحترمه، ودائمًا هو الأستاذ وليس نبيل”. أما سلمى صوان، فقد رفضت عرضًا من العملاء أن تصحب رحلة مدرسية إلى القدس، ولم يفلح تعذيبهم، ولا سجنهم لها، في إثنائها عن الرفض، حتى صرخ فيها الضابط الإسرائيلي” المستعرب” بالقول: كلكم نبيل عامل. وثمة كامل مرعي أو كسّاب الذي يعمل في تأجير العقارات، وله علاقات برجال أعمال مهمين، وموظفين كبار، وفريد علام مدير المدرسة الرسمية التي التحق نبيل مدرسًا بها، جعل من منصبه وسيلة لابتزاز المدرسين وأولياء الأمور. وهناك من ييبع موهبته بكتابة إبدعات يرضى بنسبتها إلى آخرين.
أخطر النبتات هي العملاء الذين باعوا وطنهم لأسباب كنت أرجو أن يعرض الكاتب لها، فلا عارض بلا أسباب، ولا نتيجة بلا مقدمات، درويش ( أرقش ) وسعفان ( ثعبان ) وفواز، ارتضوا الخيانة دون دافع ظاهر، إلّا أن تكون العمالة مرضًا لا يبين عن بواعثه، وإن أملى عليهم تشكيل ميليشيات تقف إلى جانب العدو الصهيوني مقابلًا لحرية بلدهم وأمنه واستقراره، لم تقتصر خيانتهم على مساندة العدو بالإبلاغ عن المقاومين، أو الحرب في صفه، لكنها صارت همًا للمواطنين اللبنانيين، فكروم القرى استباحها العملاء، واستولوا على الماشية، وأخذوا من الدكاكين ما يريدون، يقولون لصاحب الدكان: سجّل على الحساب، وتعلو ضحكاتهم. ولأن نبيل عامل كان يؤمن بعروبة لبنان، وأن قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية، وأن المستعمر الغربي زرع نبتا غريبًا في الأرض العربية، قتل، وهجّر، ودمّر، واغتصب وطنًا، وأقام فيه كيانه.. لذلك له فقد اتهموه بالعمالة للمقاومة الفلسطينية!
كانت مذبحة صبرا وشاتيلا أبشع ما ارتكبه العملاء لحساب إسرائيل، فقد أعقب خروج فصائل المقاومة من بيروت، دخول القوات الإسرائيلية إليها. كتبت فريدة كامل في أوراقها:” المقاومون الفلسطينيون خرجوا، ودّعناهم.. وبقي المدنيون في مخيماتهم عزّل من السلاح، من يحميهم من الصهاينة المحتلين، ومن أدواتهم المحليين؟”. وأنقل عن فريدة كامل ما قرأته في الصحف اللبنانية: ” حاصر جيش العدو الإسرائيلي المحتل مخيمي صبرا وشاتيلا، وأحسن حصارهما، في الجو طائراته، في البحر بوارجه، في الشوارع دباباته وجنوده. طوق المخيمين من جميع الجهات، سلط أضواء الكشافات على الأزقة الضيقة، والبيوت الواطئة، وأكواخ الصفيح، وأدخل عملاءه إلى الناس المتعبين، المطمئنين إلى الضمانات الأممية والأمريكية. توحش العملاء بحراب بنادقهم وسواطيرهم، قطعوا أعناق الشيوخ والنساء والأطفال، بتروا الأرجل والأيدي، فقأوا الأعين واقتلعوها، بقروا بطون الحوامل، وانتزعوا الأجنة منها، كوموا الجثث تلالًا… ما يزيد عن ثلاثة آلاف وخمسمائة لبنانيين وفلسطينيين مدنيين صاروا جثثًا، والجرحى آلاف ظلوا مرميين ينزفون، ويئنون، عشرات لجأوا إلى مستشفى عكا القريبة من أمكنة المجزرة، لحقت بهم السواطير وقطعتهم، وقتلوا الجرحى والمرضى والممرضين والأطباء إلخ”.
وإذا كنت أعتذر عن الإطالة في نقل هذه الصورة القاسية، فإني أستعيد قول مناحم بيجين – للأسف – تعليقًا على ما حدث في المذبحة بأن أغيارًا قتلوا أغيارًا.
الحدث المحوري إذن هو نفسه الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة بيروت بقيادة أرييل شارون، وما تبعه من مقاومة شاركت فيها كل الأطياف الدينية والسياسية في المجتمع اللبناني، عدا استثناءات ذكرتني بقصة الخائن المصري – كلنا في الهم شرق! – الذي باع وطنه، زمن الحملة الفرنسية على البلاد، وحين تقدم من نابليون بونابرت ليصافحه، رفض بونابرت معتذرًا بأنه لا يصافح خائنًا.
ذلك ما حدث، ربما بصورة أقسى في ميلشيات الخيانة اللبنانية، لما فاجأتها مطرقة المقاومة على سندان الاحتلال. وعلى حد تعبير نبيل عامل، فقد صار النهار للعملاء، والليل للمقاومة. قال نبيل عامل لزميلته فريدة كامل في وقفته أمام باب الملجأ: ابقي في هذا الملجأ، ونحن ننطلق إلى المقاومة. واصل العمل في مركز الأبحاث، دون تغيير في البرنامج، وأصدر نشرة يومية باسم” مقاومة”.
والحق أن المقاومة اللبنانية لم تقتصر على مواجهة العدوان الإسرائيلي من خارج الحدود، وعملائه في الداخل. فالاختلافات الدينية بين مذاهب الدين الإسلامي تثير في الحياة اللبنانية توترًا. يرفض الواقف في الكمين بطاقة الطالب الجامعي، ويطلب بطاقة الهوية. يسأله الطالب: ماذا يعنيك؟. يقول: أنت سني أو شيعي. وكان القتل – في أحيان كثيرة – على الهوية.
تعددت عمليات المقاومة حتى أتى اليوم الذي ترامى فيه النداء: يا أهل بيروت، لا تطلقوا النار. نحن منسحبون. لكن المقاومة واصلت عملياتها حتى تحررت بيروت.
قرأت الصفحات التالية للانسحاب الإسرائيلي، وانتصار المقاومة، توقعًا لما يضيف إلى تطورات الأحداث، وإلى ما يبين عن جوانب أخرى في الشخصية المحورية، لكنني طويت الرواية وفي الوجدان ما لا ينسى من التضاد الذي يشي بالاستحالة، لكن الأمل الصعب يتحقق بالإصرار والعناد والمقاومة.
طبيعي أن هذ الرأي يظل في إطار معناه، فليس من واجبي ، ولا من حقي، أن أقترح طريقة أخرى للعمل الإبداعي.
نحن نتعرف إلى معنى عنوان الرواية في تيقن “الكاتب بالعدل” أن نبيل عامل لديه فرص للخروج من مصيدة العميل أرقش – مثلًا لكل العملاء – ومن مصيدة هذا الوطن الكبرى، ويخرجنا معه.
الرواية مزيج من السرد الروائى والسيرة الذاتية والنقد الاجتماعى. تبين عن قدرة على الملاحظة، واكتشاف أعماق السمات الظاهرة للشخصيات. وقد استوحى الكاتب التراث، وبخاصة ألف ليلة وليلة، وتعددت أصوات الرواة، لم يبدأ من البداية ، وينتهى فى النهاية ، بل استعاد، وقدم وأؤخر، أهمل تسلسل زمن الحكى، وأفاد من الوسائط الأدبية المختلفة، مثل التداعى والاسترجاع والتقطيع والكولاج والمونولوج، وإن عبرت أحداث الرواية عن الكتابة الأدبية، وأنها – وأستعير قول يونيسكو – تتطلب شيئاً أساسيًا ، هو الإخلاص الصادق، الصوت المخلص يجلجل، ويمكن سماعه.
يبقى السؤال الذي أتغافل فيه قناعات البنيويين: هل أصيب أو أخطئ عندما أشير إلى أوجه التشابه النفسي بين المقاوم نبيل عامل، والكاتب عبد المجيد زراقط؟ وهل اختار زراقط تسمية سامي الكاتب، الذي عهد إلى نفسه جمع ما كتبه أصدقاء نبيل عامل، وزملاؤه في العمل، ومخالطوه، إلى جانب ما كتبه صاحب السيرة، وضفّر ذلك كله في بناء روائي، قوامه سيرة نبيل عامل.