»» امرأة وحيدة صادقة وسط صخب الزيف !!
بقلم ✍️ عبير سليمان عبدالمالك (كاتبة وناقدة)
تبدأ الكاتبة حكايتها بافتتاحية جذابة عندما تفاجأ الراوية الجالسة أمام نهر صغير في مدينة تظللها الأشجار الوارفة، فتجد نفسها أمام صورة لامرأة لا تعرفها، بوجهٍ غزته التجاعيد وجمال ذبل بعدما هزمته سنوات العمر التي رأتها تعدو من خلفها ركضاً فلا تقدر على اللحاق بها واستعادتها، تعود لبيتها فترى من نافذة غرفتها كل الوجوه المارة.. أصبحت شابة، ليس من بينهم وجهاً واحداً مثل وجهها الذي طبع عليه الزمن بصمته..
هل هي في حلم أم تراها تعيش واقعاً جديداً صادماً؟
تنطلق الأحداث بعدها بزيارة مفاجئة من صديقتها “صفية” ، هنا تجد الراوية ” شيريهان أو شيري ” نفسها في صراع عنيف لا تنطفيء جذوته داخل عقلها وقلبها، بعدما روت لها صديقتها عن الطبيب الساحر وحقنة إكسير الشباب، وكيف تحولت إلى شابة انمحت من وجهها كل آثار الزمن، بفعل الحقنة التي تخفي تجاعيد الوجه وترهلات الجسم، وتعيد الإنسان شاباً من جديد!
تزداد حدة الصراع داخل شيري برفضها للحقنة، ورفضها لفكرة خداع النفس وإخفاء حقيقة لا مهرب منها، وتتساءل : إذا كانت الحقنة قادرة على إعادة نضارة الوجه وإخفاء علامات تقدم العمر، لكن ترى هل تقدر على التغلب على علامات الزمن الأخرى مثل ألم المفاصل وخشونة الركبة ؟
ثم تدخلنا الكاتبة لعالم المدينة الصغيرة، التي تشبه مدن الأحلام في طبيعتها الهادئة وأشجارها وأنهارها ومناظرها الطبيعية الخلابة ، فنعيش معها حالة من الدهشة والحيرة، ونجد أنفسنا نشارك “شيري” صراعها ومشاعرها المضطربة، ولا أبالغ إن قلت أني شعرت بنفس مخاوفها عندما أدركت أن حلم ابن شقيقتها يتعارض مع رغبتها ، لكنها تجبر نفسها على القبول بالسعي لتحقيق حلمه ، فطبيعة الحياة أنها تسير للأمام ولا يمكن إيقافها أبداً.
بذكاء ومرونة تخرجنا الروائية زينب عفيفي من دائرة الصراع الصغيرة داخل عقل بطلتها إلى دائرة أكبر تتصاعد فيها الأحداث وتخرج من الحيز الشخصي إلى المحيط العام، هنا يقفز لذهن القاريء سؤالٌ مُلح :” ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ما أثر هذه الحقنة على مستقبل العلاقات داخل العائلات وبين الأزواج وبين الآباء وأبنائهم وبناتهم، كيف سيسير العمل بالمؤسسات ، وما هي الآثار المترتبة اجتماعياً واقتصادياً على المدينة؟ هل سيتبع تغيير الوجوه تغير آخر كبير يلقي بظلاله على معالم الجمال بالمدينة كالمباني الأثرية التي تحمل عطر التاريخ والأشجار والحدائق والانهار، هل سيزيد الجمال البيئي الذي يميزها أم سيختفي ويتوارى خلف صخب الجمال الصناعي؟
كي تخرجنا من حيرتنا تستمر الكاتبة في سرد مشوق للأحداث الآتية في الفصل الثاني من الرواية ، فنجدها تخرج عن الذات الساردة، وتمنح للأربع شخصيات المهمة في الرواية صوتاً يحكي فيه عما يجيش في صدره، والشخصيات هي صفية صديقة البطلة، الطبيب، حاكم المدينة، ثم تغلق الرواية بصوت الراوية مرة أخرى، كل صوت هنا تركته الكاتبة يعبر بحريته عن رؤيته تجاه ” إكسير الشباب “، منطلقة هنا من سؤال تطرحه البطلة: هل الطبيب هو الذي زرع مع حقنته هذا الغضب وهذا التغيير، أما أننا كنا غاضبين في صمت ولا نملك حق المطالبة بحقوقنا كبشر عاديين؟”
إذا نظرنا لواقعنا لن نندهش من كل ما طرحته الراوية من تساؤلات مرعبة ، بل سأضيف عليها كقارئة من وحي تجاربي الحياتية :” إن كان لدى المرأة هاجس التقدم في العمر وظهور التجاعيد مما يدفعها للحرص على تجميل نفسها ومحاولة إخفاء عمرها، فماهي حجة الرجل الذي يكذب بشأن عمره الحقيقي ، ونجد بعضهم يخاف ظهور الشيب ويخفيه بالصبغة حالكة السواد لدرجة تصل إلى صبغ شاربه وحاجبيه ؟ بل يصل الجنون حداً مروعاً عندما نجد البعض منهم يدعي بأن زوجته هرمت وأصابها الوهن والمرض وأصبحت عاجزة عن تلبية رغباته فيبحث عن زوجة في عمر أبنائه ولا يخجل من ادعاء أنه مازال شاباً في الأربعين؟!
المدهش عند الكاتبة زينب عفيفي هو قدرتها على رسم شخصياتها بريشة فنانة مرهفة الحس، هي لا تصنع شخصيات مقدسة منزهة عن العيوب، بل شخصيات حية نعرف مثلها في الواقع، ونعيش معها ونسمع نفس حواراتها، فإذا نظرنا إلى شيري نجدها تجسد المرأة التي استيقظت فجأة على واقع مؤلم ومخيف، واقعها هي من جانب وواقع مدينتها من جانب آخر، تعترف لنفسها بما تشعر به دون تزييف ولا ادعاء، تصف مشاعرها تجاه “طارق” وتجاه الطبيب بكل صدق ، حوارها الداخلي يعكس رغباتها التي دفنتها تحت طموحها وتحت تضحياتها برغباتها كأنثى عندما وجدت نفسها أماً قبل الأوان ، ولا مفر من أن تتكفل بابن شقيقتها التي توفيت شابة ، وشق زوجها طريقه وسارع بالزواج وبناء حياة أخرى.
قد يحتار القاريء مثلي مع شخصية مثل الطبيب هل يحبه أم يكرهه لما يظهره من بشاشة ويخفيه من مكر ودهاء وطمع في الكسب، على حساب مسخ الوجوه والأرواح والمشاعر الإنسانية ، وكيف لا أحتار وأنا أرى شيري نفسها تعاني من حيرة بسبب إعجابها بالطبيب، وتساءلت: ترى هل يبلغ الإعجاب بها حداً يسقطها فريسة إغراء استعادة الشباب، أو تقع في حبه هو كشخص جذاب يتمتع بحضور لافت ؟
نفس الحيرة عانيت منها مع صديقة البطلة صفية، وأدهشني تناقضات شخصيتها فلم أعرف هل أحبها وأتعاطف معها، أم أرى فيها نموذجاً للشخصية الطموحة التي يبلغ بها الطموح حد الجموح، فتصورتها امرأة تمزج في شخصيتها بين نضج الكبار وتهور واندفاع المراهقات.
أهم ما يميز أسلوب زينب عفيفي ، أسلوب السرد المشوق واللغة العذبة السلسة ، وفن تصوير المكان، وإتقان رسم تفاصيل الشخصيات ووصف الصراع النفسي بداخلها ، كما رأيت أنها برعت في التنقل من مشهد لآخر بسلاسة وانسابية ، فتتابعت الأحداث أمامي في صورة أقرب للمشهدية السينمائية ، دون ملل أو حشو بلا فائدة.
بعد قراءتي الثانية للرواية رأيت في شيري صورة قريبة من شخصية زوجة الطبيب في رواية العمى لجوزيه ساراماغو ، فالمدينة التي أصاب كل من فيها داء العمى الأبيض الحليبي، لم ينج منه سواها، ولا أنسى الجملة الخالدة الشهيرة من الرواية ” “ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى”. البطلة عند زينب عفيفي أيضاً لا تريد العيش وسط وجوه مزيفة ، فهذا الزيف سيصبغ سماته على النفوس فتتحول إلى نفوس اصطناعية كاذبة”.