»»
ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات
وأدباء المحروسة وقد أهدي الأديب مدحت الخطيب “المحامي” قصته “الكفيف” ببوابة الجمهورية والمساء..ننشرها عبر هذه السطور..
🍂
الكفيف..
لم تر البرية زوجا سعيدا بزيجته أو بزوجته مثل مَنْسِي، فقد تزوج هُيَام بعد قصة حب لم يعرف معاصروه وسابقوه مثلها، ووهبه ربه منها توأمين في جمال البدر المتلأليء في عليائه.
لقد كان وأسرته الصغيرة في قمة السعادة عندما حزموا أمتعتهم وتوجهوا إلى “ڤيينا” كطلب هُيَام لقضاء الإجازة السنوية، وقد كان أسبوعا ساحرا خلابا، عاشوا خلاله في نشوى المناظر الطبيعية والمنتزهات والقصور الإمبراطورية والمسارح والمباني المتفردة في تصميماتها التي لا تزال تسكرهم بجمالها وعبق التاريخ فيها.
ولم يكن غريبا أن يكون “عبد القادر وزوجته سمر” موجودين في “ڤيينا” خلال اليومين الأخيرين من تلك الرحلة، فهو عضو مجلس إدارة النقابة العامة للمرشدين السياحيين، وهو كثير السفر بسبب طبيعة مهنته وعمله، وهو الصديق الصدوق لمَنْسِي، وهو القريب القروب منه، وما يخفيه عن العالم يبديه له، وما يكتمه حتى في نفسه يسره له، ثم هو من قبل ذلك أخوه في الرضاع، فالتقما ثديا واحدا، ونبت لحمهما بغذاء واحد، وَدَرَجَا معا في بيت واحد.
ولم تكن سَمَرُ صديقة لهُيَام مثل أي صديقة لها، بل تفردت عنهن بالثقة التي لا آخر لها، وتوحدت من بينهن بالثرثرة حتى في أدق التفاصيل عما يحدث على فُرُشِ الزوجية، فكانت هذه تثرثر، وكانت تلك تسمع وكأنها تشاهد.
وقد كان أجمل وأمتع ما في الرحلة هو يومها الأخير، فقد عاشوه بكل ما في كلمة المعيشة من معنى ودلالة ومفهوم، وكان من المتفق عليه استكمال جماله ومتعته في الفندق الذي ينزلونه، ولكن “مَنْسِي” قد بلغ أوج تعبه بعد يوم مُنْهِكٍ زاروا فيه ما لم يزوروه من قبل، ورأوا فيه ما لم يروه طوال الأيام الخالية من رحلتهم الماتعة، فآثر الراحة، وراح يسلم نفسه إلى النوم يَغُطُّ فيه غَطّا.
لم يسمع “مَنْسِي” رنين هاتف زوجته الذي جلجل أثناء نومه العميق، ولم يكن في وعيه عندما سمح لها، وقد استغرقته غَفْقَةٌ، بالسمر مع سمر وزوجها عبد القادر في حجرتهما بذات الفندق، ولم يشعر بها وهي تغير ملابسها وتمشط شعرها وتهندم زيها وتصلح شأنها وتعطر نفسها، ولم يوقظه صرير باب الحجرة عندما فتحته وأغلقته متوجهة إلى حجرة صديقتها.
لم يوقظه في الليلة الأخيرة من ليالي الرحلة الآسرة الساحرة الباهرة سوى طنين بعوضة رشقت لسانها الثاقب على خده تمتص من تحت جلده دما يغذيها، ونظر هنا وهناك فلم يجد هُيَام، فنادى عليها، ولكن لم يسمع صوتها، فتعجب العجب كله، إذ لم يخطر في باله البتة أنه هو وبعظمة لسانه من سمح لها بالخروج والسمر مع صديقتها، ولم يخطر في باله البتة أنها في شقة صديقه عبد القادر في السَّحَر، وقد كاد الصبح يخرج من جوف الليل.
استيقظت طفلتاه على طقطقة السرير عندما كان والدهما ينزل من عليه ليبحث عن زوجته، فلما تنبه إليهما، سألهما عن والدتهما، فأجابته إحداهما بعدم المعرفة، وأجابته الأخرى بأنها قد تكون عند “طنط سمر”.
حاول الاتصال بها، ولكن هاتفها كان مغلقا، فارتدى معطفه وخرج يبحث عنها داخل الفندق، ولم يكلف نفسه المرور على حجرة صديقه لثقته الكاملة أنها لن تكون في ضيافته في هذا التوقيت، فلما لم يجدها في بهو الفندق واستراحته وحديقته، عاد بخفي حنين، وتوجه إلى حجرة صديقه الوفي ليساعده في البحث عن زوجته.
وقف الزوج الملهوف على زوجته أمام باب حجرة أخيه في الرضاع، ورفع يمناه، وكاد يطرقه، لولا أنه سمع زوجته تتغنج لأخيه الوفي بألفاظ تثير الغرائز وتلهب الشهوات الجنسية، فوضع أذنيه على الباب ليتثبت من صوتها، فلما تحقق وتيقن وتأكد، جرت الدماء في عروقه، وانتفخت أوداجه، واحمر وجهه، فرجع بضع خطوات إلى الخلف، ثم تقدم مندفعا بكل جسده، وبكل ما فيه من عزم وقوة تمكن من كسر الباب تكسيرا، ليشاهد بأم رأسه خيانة زوجته مع صديقه الصدوق وأخيه المخلص الأمين.
لم يتمالك “مَنْسِي” نفسه عندما رأى هُيَام في حضن عبد القادر، فمال عليها وأطبق كلتا يديه حول رقبتها، ولم يتركها حتى فاضت روحها إلى بارئها.
أمضى مَنْسِي العقوبة داخل محبسه مواصلا غمض عينيه، إذ عقد العزم على الصيام عن رؤية البشر منذ اللحظة الأولى من مقتل هُيَام وحتى آخر العُمُر، فلما نفذ الحكم وخرج من سجنه استأجر غرفة، وطلب من جيرانه السابقين إعادة كلبه الذي تركه في عهدتهم لرعايته، فلما جاءوه به استقبلهم استقبال الكفيف لزائريه، وأحسن ضيافتهم، فلما انصرفوا وأغلق الباب خلفهم، خلع النظارة السوداء من على عينيه، وأشعل مصباح الغرفة، ليفطر بعد صيام طويل على رؤية كلبه الوفي الذي لم يغدر به يوما، ولم يخن العشرة التي دامت بينهما زمنا.
🍂