بقلم ✍️ أحمد رفاعي آدم ( روائي وأديب)
وصل عبد الله إلى بيته قبيل المغرب، تكسو ملامحه إمارات الضيق، كأن هموم الدنيا كلها سقطت على رأسه. استقبلته زوجته بقلب مرتجف وهتفت لدى رؤيته:
– ماذا بك يا عبد الله؟! ماذا حدث؟
أزاحها من طريقه بلطفٍ وانهار على أقرب مقعد قابله، فكرَّرتْ سؤالها بنبرة أقرب إلى البكاء. رفع رأسه ببطء وهو يتحاشى النظر في عينيها ثم قال:
– خَسِرَتْ تجارتُنا!
وبالرغم من كِبَر المصيبة إلا أن ردَّه أراحها بشكل ما، ربما لأنها توقعتْ مصيبةً أكبر كعادتها.
اتخذَتْ مجلسها بجواره وقد خفَّ ارتجاف قلبها وبدَتْ أكثر تماسكاً، فحوقلتْ ثم قالتْ تطلبُ مزيداً من التفاصيل:
– كيف حدث ذلك؟
وجعل عبد الله يحكي لها وهي تسمع باهتمام، حتى بلغ الجزء الذي قال فيه:
– أعلمُ أنَّ التجارةَ مكسبٌ وخسارة، وأنَّ دوامَ الحال من المحال، ولكنني أشعر بأن التقصير كان من قِبَل شركائي، ولا ذنب لي.
وبدا أن زوجته لم تفهم ما يرمي إليه فسألته:
– ماذا تقصد يا عبدالله؟
قال:
– لي حق ولن أفرِّطَ فيه.
ولمَّا لمح التساؤل في عينيها استطرد قائلًا:
– ولكني لا أعرف من أين أبدأ.
وبحسِّ الزوجة التي تشارك زوجها كل مواقف الحياة وتهتم لصغائر أموره قبل كبارها قالت:
– إذا كان الأمر كما تقول فالحل بسيط ..
فقال متلهفاً:
– وما ذاك، فديتُك؟
أجابت وهي ترسم ابتسامةً مُطَمْئِنةً على ثغرها:
– خاصِمْهُم عند القاضي شريح!
فهتف:
– أبي! ولكن ..!!
فرمَقتْه بنظرة متفحصة وقالت باهتمام:
– ولكن ماذا؟!
قال حزيناً:
– ولكن ماذا لو قضى لهم؟
فسألته وكأنها تعلم أنه يُخفي شيئاً:
– أولست تثق أن الحق معك؟!
فهتف مزمجراً وهو ينهض:
– بلى .. إنَّ الحق معي .. وكما قلتُ لكِ لي حق ولن أُفرِّطَ فيه!
فنهضتْ زوجته وقد أحسَّتْ بتوتره وكانت لقربها منه وحبها له تفهم حتى ملامح وجهه ونبرات صوته فقالت بحنوٍ وهي تربتُ على كتفه:
– هون عليك يا حبيبي، فلكل مشكلةٍ حل.
وصمتت برهةً ثم قالت وقد لمعت عيناها بفكرة حسنة:
– ما رأيك أن تستشير أباك؟!
وكأنه الغريق الذي عثر على طوق نجاته فتعلق به. قال والسرور يزين وجهه لأول مرة منذ رجوعه إلى البيت:
– فكرةٌ ممتازة! أستشيره، فإن كان لي الحق لجأت إلى القضاء، وإن كان الحق عليَّ سويتها معهم بالحسنى!
(٢)
دخل عبد الله على أبيه القاضي شُريح في مجلسه فسلَّمَ عليه وانحنى يُقبِّلُ يده. وبعد حديثٍ مقتضبٍ دار حول الأسرة والأحفاد والتجارة قال الأبُ وقد كان عليماً ببواطن ابنه:
– والآن قل لي يا عبدَ اللهِ .. ماذا يشغلُك؟ فوالله ما أتى بك الساعة إلا خطبٌ جلل!
تلعثمَ الشابُ وقد غَرِقَ في خجله:
– في الحقيقة يا أبي هناك أمرٌ يشغلني فعلاً وأودُّ أن أعرضه عليك لأعرف رأيك.
ابتسم القاضي شريحُ وقال بهدوء:
– هات ما عندك .. ولكن في عجالة، فحوائج الناس تنتظرني.
تنحنح عبد الله وابتلع ريقه مرات وتحجَّرتْ الكلمات في فمه مدة، قبل أن يقول في الأخير:
– إن بيني وبين قومٍ خصومة. فانظر في الأمر، فإن كان الحقُّ لي قاضيتُهم، وإن لم يكن لي الحقُّ لم أُخاصم.
ثم قص قصته عليه. فقال شُريحٌ وهو ينهض ولا تزالُ ابتسامته تتسع على شفتيه:
– انطلق يا بني فخاصِمْهم!
(٣)
انطلق عبد الله ولم يكذَّب خبراً، ولم يتردد في مقاضاة شركائه، ولشد ما كانت دهشتهم حين طلبهم القاضي للوقوف بين يديه، وبين خائفٍ من ضياع الحق ومتوجسٍ من أن يحكم القاضي شُريح لابنه مضوا مُكرَهين وهم لا يملكون من أمرهم إلا الدعاء بتحقق العدل.
ووقف الفريقان أمام القاضي، فريق المدَّعِي وفيه عبد الله بن القاضي نفسه، وفريق المُدَّعَى عليه وفيه شركاؤه، وسمع القاضي من كلا الفريقين، وكان هادئاً كعادته ينصت بكل جوارحه، حتى انتهى كلٌ من شكايته. وحانت اللحظة الحاسمة، لحظة النطق بالحكم، فما راع عبدالله إلا وصوت أبيه القاضي يحكم لرفاقه عليه! وجَمُد الشاب كأنما ضربته صاعقةُ برقٍ في ليلةٍ شاتية فقضت عليه، وهلَّلَ الآخرون وكبروا وقد أخذت الدهشة والفرحة بمجامع عقولهم فطيرتها.
وانفضَّ المجلس وانصرف القوم، والتقى الابن المصدوم بوالده الوقور في البيت، فقال له لما رجع إلى أهله:
– والله لو لم أتقدّم إليك بطلبِ النُّصحِ لمْ ألُمْك. فضحتني!
فقال شريح بنبرة الواثق الذي لا يخشى في الله لومة لائم ولو كان ابنه الذي من صلبه:
– يا بني، والله لأنت أحَبُّ إليَّ من مِلءِ الأرض مثلهم، ولكنَّ الله هو أعزُّ عليّ منك. خشيتُ أن أخبركَ أن القضاء عليك فتصالحَهم على مالٍ فتذهبَ ببعض حقهم!
— تمَّتْ —
العبرة
في قصة القاضي شُرَيح مع ابنه عِبرةٌ جليلة وموعظةٌ حسنةٌ كلنا في حاجة إليها، وملخصها أن الحقَّ غالٍ، وأغلى منه المحافظة عليه والذود عنه ونصرته في أحلك ظروف الظلم وأشدها وطأةً على ابن آدم الضعيف، ضعيف النفس أمام أطماعه وشهواته، وضعيف اللسان في قول الحق أمام ذي النفوذ والقوة، وضعيف البدن أمام مرور الزمن وتبدل مواقفه. فلا يَصِحُّ التلوُّن حسب المصلحة، ولا تجوز المداهنة والتدليس لأجل القرابة والمعرفة، وقديماً قالوا: “لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.” فليس الحق هو ما يراه صديقي أو قريبي أو ذو المصلحة عندي، إنما الحق ما سطع ووافق العدل والإنصاف، والحقُ أحقُّ أن يُتَّبَع وإن كان ثمنه أن يعترفَ المرءُ بالحق ولو على نفسه.
كثيرٌ من مشكلاتنا سببها التساهل في الحق والحيف عنه، وهل تقع الخصومات وتُقطَّع الأرحام والصلات إلا نتيجة لأكل الحقوق؟ فتش في المحاكم تجد أن جميع القضايا الذي تزحم مكاتب القضاة وتشغل أرفف حجراتهم وراءها حقٌ ضائع، أو ظلمٌ واقع! لم يكثر الفساد إلا بتعمد تضييع الحق، ولم تُهدَم الُأسَر وتُخَرَّب البيوت إلا بالاصرار على أكل الحق وهضمه واستساغته، ولم تتشاحن النفوس وتتباغض حتى تقطعت أوصالها وتهدم ما كان بينها من تراحم ووصال إلا برفض إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم. فهلَّا فهمنا المعضلة وأدركنا خطورة الوضع؟!
وصور الحق في حياتنا أكثر من أن تعد، فاعترافك بخطئك حق، وقيامك بعملك حق، وعدم تقصيرك في حق أبنائك بتربيتهم وتوجيههم والإنفاق عليهم حق، ومعاملتك الناس بخلقٍ حَسَنٍ حق، وتثقيفك نفسك وتطوير ذاتك حق، ودفاعك عن الوطن وتضحيتك بالغالي والنفيس في سبيله عينُ الحق، إلى غير ذلك من الواجبات والفروض.
والحق كلمة عظيمة تعيش معنا ونعيش معها في جُلِّ أمورنا، فكلمة “حقك علي” تُصلِح ما فسد من العلاقات بأدنى جهد لما لها من مفعول السحر في القلوب، ودراسة “الحقوق” تؤهلك للدفاع عن حقوق الناس أو الفصل في نزاعاتهم في دار القضاء، ونقول على من مات “هو في دار الحق” ونحن في دار الباطل، والبحث عن “الحقيقة” هو شغل الصحفيين ولذلك هم السلطة الرابعة أمام القانون، وأخيراً نسمي أقرب الأصدقاء وأوفاهم وأعزهم بالصديق “الحقيقي”! ولو تركت المجال لقلمي لسطَّر عشرات وعشرات من أمثال تلك العبارات التي تتداولها ألسنتنا كل يوم، تأكيدًا على أن الحق في حياتنا بمثابة الهواء نتنفسه ولا نستغني عنه لحظةً! نسأل الله أن يجعلنا ممن يحمي الحقوق ويقول الحق ولو على نفسه.