بقلم : د. ناهد الطحان
ترى الكاتبة الأمريكية الإفريقية توني موريسون ( 1931 – 2019 ) الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب عام 1993 أن الكتاب هم من ينقذون حياة اللغة بتوجيه الدفة نحو الخيال والأمكانيات المحتملة المتوقعة، فالعمل مع اللغة كما تقول يصنع المعنى ويحافظ على فرادتنا الإنسانية، اذ نبدو بها غير متشابهين مع حيوات أخرى .
وأرى أن هذه المقولة المهمة لتوني موريسون هي أكثر ما يميز المجموعة القصصية ( هذا مقعدك ) للأديب العربي عبد الوهاب، حيث وظف الكاتب اللغة عبر الخيال والتقنيات السردية ما بعد الحداثية وعبر الحبكات الفرعية بما يتناسب مع طزاجة اللغة وحيويتها وتعبيرها الآني عن همومنا وأحلامنا وحنيننا وآلامنا في إزاحات دائمة طيلة السرد عبر مستويات التشظي ومساءلة القاريء والواقع في مقابل كل ماهو متهالك وقديم ومألوف .
يبدو هذا منذ البداية مع عوالم المجموعة التي قسمت إلى ثلاثة أجزاء هي ( شقيق – قفزة وقفزة – شجن ) حيث ينم عنوان الجزء الأول ( شقيق ) عن الأخ الصديق والنظير المتفرد في قلبه وكيانه وهو ما يظهر مع أولى قصص المجموعة في هذا الجزء التي تحمل عنوان المجموعة ( هذا مقعدك ) مستغلا امكانات اللغة من خلال اسم الإشارة للدلالة على الآنية ومستغلا كلمة ( مقعدك ) – كما سيبدو من القصة كلما أوغلنا في قراءتها – للدلالة على مكانة الأخ في قلبه وعلى حضوره الدائم بلا غياب ، ومستخدما النوستالجيا والشوق في استدعاءات لا تنتهي لمواقف حاضرة في ذاكرته لا يمكن أن ينساها، جمعته بأخيه الأكبر وجيه عبد الوهاب الذي يهدي إليه قصته .
ومن خلال هذه النوستالجيا التي تلازم الجزء الأول من المجموعة تتداعى الذكريات عبر فلاش باك متواصل وسلسلة من الميتاسرد تميز عالم الكاتب العربي عبد الوهاب في مجموعته ( هذا مقعدك ) ، في لغة شاعرية رقيقة تخاطب ذكرى الأخ الراحل كما نعلم من السرد، ذلك الأخ الأكبر الذي طالما دافع عنه واحتمى به فكان سندا وعضدا له، وهو الذي كثيرا ما كان يتورط في مآزق لا تنتهي بحكم شقاوته كأخ أصغر، ليمتد الحكي بنا للمزيد من الاستدعاءات فتأخذنا لقصة ( قبيل المغرب بدقائق ) وهي القصة الثانية للمجموعة حيث الراوي/ الأخ الأصغر وهو أمام قبر أخيه يتذكر حكاياتهما معا ويخاطب أخاه مذكرا إياه بما حدث ومسائلا إياه : أتذكر ؟ ثم مسائلا نفسه حينا آخر : ( هل يذكر أخي ما حدث ؟) مما يجعل اللغة هنا طيعة في خدمة ذلك السيل من التدفقات الحكائية التي جاءت معبرة عن حالة الحنين التي لازمت القاص منذ البداية والتي تستمر معنا في قصة ( من يقطف الورد ) لمزيد من الإيغال في نفسية أخيه الأكبر الذي تتشكل معالم شخصيته وشخصية الراوي / الأخ الأصغر شيئا فشيئا من خلال السرد مع كل قصة في هذا الجزء من المجموعة، حيث نعلم أن الأخ الأكبر قد آل على نفسه العمل بعد الإعدادية كمقاول لمساعدة الأب الموظف البسيط كما أن الأخ الأصغر والأخ الذي يليه يعملان معه بالأجرة في غير أوقات الدراسة، مما يجعل الأخ الأكبر القائد والآمر لهما وأيضا المعين على مصاعب الحياة، ورغم ذلك الإطار العائلي الذي يشي بشيء من البؤس تأتي نوستالجيا الحكايات في محاكاة ساخرة وتهكمية تحيلنا لذكريات شفيفة وحانية ومفارقات جمعتهما في قصة ( يوم تركته على ماسورة العجلة أمامي ) التي جاءت كسبب لقصة ( لما أردفني وراءه ) والذي يتغنى فيهما الراوي بشهامة أخيه الأكبر في مقابل نذالته وبشجاعته وقوته واصراره على الإنجاز وأيضا في عقابه له كأخ أكبر يعلم ويربي .
وعبر سردية الحنين التي يتغنى بها الراوي تأتي قصة ( يوم بتر الطبيب الأحول عقلة من إصبعه ) التي يتأسى فيها الراوي لما حدث لأخيه كعامل في أحد مصانع العاشر من رمضان على أحدى الماكينات لمدة 12 ساعة، عندما شرد بخياله سارحا يفكر في زوجته الحامل التي توشك أن تلد وفي ابنه الذي ولد بعيب خلقي وفي والديه، فإذا الماكينة تتسبب في إصابة يده إصابة تطلبت بتر عقلة أصبع السبابة اليمنى، ليروي لنا القاص اضطرار أخيه للتوقيع على ورقة بأنه من تسبب في الحادثة وليست الماكينة وكذلك الموافقة على بتر أصبعه بإيعاز من أصحاب المصنع، ليضطر للعمل كأمين مخزن للمصنع لمدة 8 ساعات يوميا بدلا من الطرد إذا ما تقدم بشكوى ضد المصنع ، كي يضمن أجرا شهريا منتظما لأسرته، ويعود ليجد أن زوجته قد ولدت بنتا فيحملها محاولا اخفاء أمر يده عن الجميع في مزج سردي بين لحظة إصابته من الماكينة وبين لحظة ولادة ابنته أحيي القاص عليه؛ اذ يصنع تصاعدا حدثيا موازيا ومتوترا يساهم في التأكيد على قسوة اللحظة من جهة والبهجة من جهة أخرى كمعادل للأمل والإستمرارية في المستقبل ، وهو ما يؤكد في الوقت نفسه على حالة البؤس التي يعيشها العمال بشكل عام والأخ الأكبر بشكل خاص جراء استغلال أصحاب المصانع والأعمال وهي سمة في عالم اليوم صنعتها عوالم الميكنة الحديثة وتهميش الإنسان وقسوة الواقع عليه .
وتستمر حالة النوستالجيا في قصة ( كأنك هو سبحان الله !! ) وقصة وصايا ليستكمل الراوي / الأخ الأصغر حالة الحنين والشوق لأخيه؛ حيث يعيد الأخ تجسيد المشهد / الموقف عندما كان أخيه يستقل الموتوسيكل وهو وراؤه حيث وقعا من عليه فنهض الأخ الأصغر ومد لأخيه يده كي ينهض، وتبدأ القصة بوجود الأخ الأصغر في نفس المكان واستعادة الأحداث عندما رأى شابا يرتدي نفس الترننج الذي كان يرتديه أخوه في ذات الموقف بل والمدهش أن ذلك الشاب يشبه أخاه بدرجة كبيرة، فيذهب إليه ويخبره بذلك ويطلب منه تليفونه رغبة في التواصل معه كي يذكره بأخيه فإذا بالشاب يستقل الميني باص ويتركه مندهشا، ورغم ذلك يمد الأخ الأصغر يده محاولا انهاض أخيه الذي وقع وكأن المشهد يتجسد مرة أخرى أمامه بل مازال يعيش فيه حتى الآن ، لتتشكل اللغة هنا تشكيلا يواكب حالة الحنين عبر تقنية ( الفلاش باك – إعادة التجسيد ) في توظيف يتناسب مع لهفة الأخ الأصغر لرؤية أخيه فكأنه مازال يعيش في تلك العوالم الماضية، وهو ما تؤكده أيضا قصة ( وصايا ) حيث يطلب منه أخيه وهو في الجيش حضور امتحان العملي بدلا منه في امتحان الشهادة المتوسطة، لأنه لن يستطع الحصول على إجازة لحضور الإمتحان كما حدث في العام السابق مع ما نعلم من ترك الأخ الأكبر للدراسة بعد الإعدادية كي يعمل ويساعد الأب في الوقت الذي أصبح فيه الأخ الأصغر / الراوي في الثانوية العامة، فيقبل الأخ الأصغر في تردد بعد تشجيع وطمأنة أخيه الأكبر له، في هذه القصة يوازي السرد بين رحلته مع أخيه ورحلة القطارات التي يركبها الناس كل يوم وينزلون في محطة مغايرة، فهاهو أخوه وحيدا مناديا إياه في الظلام عله يسمعه بعد أن رحل عنه .
أما الجزء الثاني للمجموعة القصصية المعنون ب ( قفزة وقفزة ) فإنه يشي بتلك القفزات التي تحدث في الذاكرة وهو عنوان موحي بحالة التشظي التي تكتنف قصص المجموعة سواء على مستوى مضمون السرد أو تشظي الزمان والمكان والأحداث من خلال تداخله وتنوعه وكذلك من خلال تقنية الميتاسرد كما نجد في قصة ( العواد ) وهي من القصص المهمة في المجموعة كتبها الراوي كما يشير عام 2011 ،وهي إشارة دالة على زمن الحدث، والقصة تمثل انشطار الذاكرة أو الزمن وانشطار المكان، الذي يمثل الميدان فيه تمركزا رئيسا ينطلق منه ويعود إليه، في إشارة واضحة على استمرارية النضال من أجل الوطن، إذ تبدأ القصة باحتفالية توزيع الأنواط على الشهداء والذي يتزامن مع لعب أحد الأطفال بعجلة مهترئة كمعادل لواقع مهتريء بدوره،
وعبر تشظي الزمن يتذكر الراوي العواد الذي كان يعزف أثناء الإحتفال بتوزيع الأنواط وبكائه على صديق الميدان الشاب المسيحي الذي كان يؤلف الأغاني وهو يلحنها مما يؤكد على الوحدة الوطنية في الميدان، ثم حديث الراوي مع زوجته في مشاهد متفرقة تجمعها الذاكرة السردية في مونتاج سينمائي متتالي وسريع، وهو ما يتماشى مع معلومات السرد في بداية القصة كون الراوي في العقد الخامس ويعاني من اخفاق في التذكر، وهي أيضا نفس التقنية السردية التي ينتهجها الراوي في قصة ( أغلبهم مر من هنا ) من خلال الميتاسرد الذي جعل من الشعور بأنه بين الموت والحياة على إثر إصابته بطلق ناري جعله مبررا للتنقل والدخول والخروج عبر عوالم سردية متنوعة بكل انسيابية من الميدان الذي كان يعاني الشجن والظلام والعتمة والليل الطويل، الذي غيم عليه ليخضع لعملية جراحية ثم النهوض مرة أخرى رغم الضعف للجهاد في الميدان، وهو ما يشير للتغيير والمواجهة من أجل الأفضل لبلادنا عام 2013 .
وتعد قصة ( حكاية جديدة عن لوحة الموناليزا ) من القصص المتميزة داخل المجموعة والتي يستخدم فيها الراوي تقنية الميتاسرد أيضا لخلق عوالم أكثر تشويقا وادهاشا لدى القاريء، من خلال مدرس الرسم الذي يحث طلابه على إعمال خيالهم، فيستخدم حيلة الأقنعة لتشجيع طلابه في الشهادة الإعدادية كي يعيشوا عوالم خياليه عبر حكاياته المتوالية، التي تتوالد سريعا والتي تعبر عنها الأقنعة التي يوزعها عليهم كل حصة، فيجدوا البهجة والسعادة مع تلك الحكايا المتنوعة التي تثري خيالهم وتشجعهم على الرسم والإبداع .
وينتقل السرد عبر تلك التقنية التي تعتمد أيضا على التفاعل مع الطلاب من قصة الصياد إلى قصة حبيبته مع تناص مع عمر أفندي وعدس وبنزايون وصيدناوي وشملا وشركة بيع المصنوعات وبحثه عن تاريخ انشاء عمر أفندي الذي كان يقابل حبيبته إلى جواره في إشارة لفترة زمنية مهمة في تاريخ مصر، ونلاحظ هنا تدخلات الراوي في السرد ليخاطب القاريء فيثير تساؤله ودهشته ويحاول إعمال تفكيره ليقفز بنا السرد بعد ذلك زمنيا للمستقبل، بعد أن أحيل المدرس للتقاعد، حيث يقابل ابنة حبيبته التي توفت وتتعرف عليه بل وتناديه باسمه، ليترك السرد لخيال القاريء أن يستنتج كيف بادرته ونادته باسمه، كما يتعرف عليها بدوره من خلال الشبه القوي بينها وبين أمها، وذلك عندما ذهب لتخليص أوراق سفر ابنه الذي بحث عن عمل بلا جدوى، مثله مثل غيره من أقرانه، فيضطر للبحث عن عمل في بلاد الخليج، فتساعده على ذلك ويذهب معها إلى مسكنها، حيث صورة الموناليزا التي رسمها منذ ثلاثين عاما وفازت في محافل فنية عالمية معلقة في منزلها، فيبكي وهو يتذكر الماضي والحبيبة التي حققت لها ابنتها وصيتها بأن تصل إلى حبيبها وتخبره بأنها كانت تحبه وتردد اسمه.
والقصة تعمق من قيم الإبداع ، والإخلاص في العمل ، والوفاء ، والتغني بأمجاد الوطن، مع تعميق أهمية السرد في التعبير عن تلك القيم دونما مباشرة أو خطابية وإنما من خلال استخدام تقنيات مابعد حداثية تسائل الماضي والحاضر وتعمل على تفكيك مفرداته بغية إعادة اكتشافه وصياغته من جديد بأسلوب ابداعي مبتكر واستخدام تقنية الإستطراد كسرا للمألوف والمتناغم من أجل لفت انتباه القاريء ودهشته، وهو ما يظهر في أسلوب المدرس مع طلابه.
وفي الجزء الثالث والأخير من المجموعة القصصة والمعنون ب ( شجن ) يستدعي السرد الحكايا المتشعبة والمتفرعة التي يستدعي بعضها بعضا من جهة كما يستدعي الهموم والذكريات والأصدقاء من جهة أخرى الذين يهديهم المؤلف سرده أو ينسج عنهم مثل قصة ( قالت له ) التي يهديها إلى الدكتور حسن طلب بل ويتناص مع أشعاره التي يستعين بها في السرد، كما نجد قصة ( لقاء متأخر على السلم ) حيث تتحدث شخصية أيمن عن نفسها من خلال تقنية الميتاسرد بعد أن كانت جزءا من القصة، لتصارح الراوي بكل شيء عنها وتفسر له حزن الأم عليه وسؤالها للراوي – الذي يجسد شخصية مدرس يتولى مهام عمله في إحدى المدارس – إن كان يعرف أحدا من الشيوخ يعالج الملبوسين وأظهرت الحزن، وصارحته بأنها تحتاجه من أجل ابنها ذلك الإبن الزميل لهذا المدرس، ومن خلال السرد يصارح الإبن أيمن الراوي بأنه يعاني من الصرع وليس ملبوسا، بعد أن يسير السرد في إطار تهكمي على الزوجة التي أصبحت تشبه أمه / خالتها وضيقه بذلك في تخفيف من أزمة السرد.
وأيضا نجد تلك المحاكاة التهكمية في قصة ( نهيق متقطع لحمار حزين ) والتي تنتهي نهاية ساخرة ، حيث يبادرنا الراوي منذ بداية القصة بجملة ( يمكننا دخول الحكاية ) ليعطي الراوي لنفسه الحق في التدخل في القصة منذ البداية حيث يقطع السرد ويشكك في وجود الحمار، كما يشكك في وجود شخصية (حندوقة) ذلك الرجل الذي حن على الحمار الذي اعتاد أن ينهق في الخرابة المجاورة في منتصف الليل ، فيحاول الراوي مساءلة السرد عبر تفكيكه وتفسير وجوده فيخبرنا أنه ( ربما ورد اسم حندوقة في كتاب ألف ليلة وليلة أو كتاب كليلة ودمنة وربما هو مخلوق من ورق .. محض خيال الكاتب .. ربما يكون موجودا كلما تلفتنا يمنة ويسرة يمكننا أن نراه ( حندوقة ) .. باختصار يمكننا أن نقول أنه يجسد أيقونة ذلك الزمن الرديء ) فهو هنا يسائل السرد عبر مساءلة الراوي لنفسه بل ومساءلة الواقع المحيط به عندما يصفه بأنه كان زمنا رديئا، ثم موجها حديثه للقاريء : (فما هي حكاية ذك المخلوق بالضبط ؟ ) ليتابع الراوي الحكاية بسخرية، حيث أن حندوقة أصبحت له هيئة حمار وهو ما لاحظه زملاؤه في المدرسة التي بنيت مكان الخرابة، والتي ربط أمامها صاحب الحمار حماره، ولم ينقطع الحمار عن النهيق ليلا ولم ينقطع حندوقة أيضا عن الذهاب إليه، مما أثار شكوك الجميع حول هيئة حندوقة، وهي نهاية تهكمية ساخرة تدفع القاريء للدهشة والشك، بعد أن انتهت القصة بشكوى للمسؤولين أو القراء .
وفي قصة ( بتاع الكلب ) يوجه الراوي كلامه للقاريء منذ البداية وهي قصة ساخرة أخرى تحيل التساؤل للقاريء أيضا وتتأسس على حادثة لإحدى الطالبات عندما غافل الكلب حارس بوابة المدرسة ودخل وعض الطالبة مما أثار الخوف لتتطور الأحداث عندما نعلم أن المسؤولية على ما حدث تقع على حارس الأمن الذي ترك الكلب يدخل وهو نائم على الأريكة ، ولسذاجة حارس البوابة فإنه عندما ييذهب للتحقيق معه لا يذكر غير أنا بتاع الكلب ليجدها الجميع مادة للسخرية طوال الوقت داخل مكان التحقيق ، بل وأصبحت جملة مأثورة وأصبح زملاؤه في المدرسة ينادونه بها ليتساءل البواب عن خطئه وكأنه يوجه التساؤل للقاريء هل كان خطؤه أنه نام وترك الكلب يدخل ويعض الفتاة أم أنه قال : أنا بتاع الكلب ، هذه النهاية الساخرة تحيلنا للتساؤل عندما يترك الجميع أسباب الخطأ الحقيقية وتصبح الكلمات بدلا منها ذات أهمية مطلقة بدلا من علاج الأمر وأسبابه وهي أيضا مساءلة للقاريء كي يفكر ويسعى للتغيير ومساءلة للواقع .
نجد أيضا في قصة ( انتظروني عند الخامسة ) – والتي تنشطر وتتفرع إلى خمسة مقاطع سردية – التداعي الحر في المقطع الأول مع بداية تدفع القاريء للتساؤل حول السبب والنتيجة وحلمه بأخيه ثم عن مشكلات الذاكرة التي جعلته ينسى اسم دوائه أمام طبيب التأمين الصحي، ثم مغامرته وصديقة بالتناص مع السطر الشعري للبياتي حين يقول ( يا امراة الهيمالايا وجبال الإنديز ) وتذكره له من وقت لآخر وصديقه يلقيه، وكلها تشي بتشظي الزمان والمكان والحدث.
وأيضا في قصة (غطاء أخير لرجل وسيدة) نجد فيها تلك الحكايا العادية التي تدفع لكسر اعتيادية الواقع بالإدهاش، من خلال حديثه مع صديقه الذي يغتاب الناس ومحاولته تغيير سلوكه هذا ومن خلال حواره مع أمه التي تتعمد النظر في أكياس الزبالة حتى تعرف طعام الأمس، وكلها سلوكيات اعتيادية تسائل الواقع وتدفع القاريء للدهشة منها، عبر عرضها كجزء من واقعنا المعتاد، وهو نفس التكنيك في قصة ( هناك لا تنتظرني وحدك ) والتي جاءت مجزأة إلى ثلاث مقاطع سردية تحكي كل منها حكاية تعتمد تداعي الحلم وحوادث الطرق التي تتسبب في فقدان الأحبة، في تصوير للواقع تصويرا مأساويا يدفعنا أيضا لمساءلته ومساءلة أنفسنا عبر سرد صادم يستدعي الصور الفنية، كنوع من التضاد بين الحلم بما يحمل من عوالم هادئة وبين الواقع المأساوي الذي يصدمنا وكأنه يوقظنا من غفوتنا .
من هنا يبدو لنا أن المجموعة القصصية ( هذا مقعدك ) للأديب العربي عبد الوهاب قد نجحت في انسيابية، عبر تقنياتها السردية ما بعد الحداثية، في إزاحة ذلك الإطار الخيالي المعتاد والمألوف لكل من اللغة والحبكة والزمان والمكان عبر النوستالجيا والتشظي والميتاسرد والإستطراد والتشكيك والتناص والتداعي وكسر الإيهام والإعتياد، لتضعنا أمام عوالم جديدة يصنعها وعي الكاتب بغية الدهشة والجدة ومزيد من المتعة، وعبر مساءلة الواقع والقاريء في محاولة لطرح سردي مختلف يعيد صياغة مشاعرنا وهواجسنا بعيدا عن الإجترار والتكرار دون طائل .