بقلم ✍️ د. محمد غنيم (كاتب وأديب ـ عضو اللجنة لجنة التسامح المجتمعي باتحاد الكتاب)
ربما تنافس الرسمةُ الكلمة، كما تنافس اللوحةُ القصيدةَ والقطعةَ الموسيقية. وفن الكاريكاتير، أو الفن الساخر، نوع من التصوير، أو الرسم، المبالغ في تفاصيله، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي والسياسي، وهو أداة قوية للتعبير عن الآراء والنقد الاجتماعي والسياسي. وعادة ما يستخدم في مجال الصحافة مصاحباً للمقالات الصحفية والتقارير الإخبارية، أو مستقلاً بذاته معبراً، وأحيانا ما كان يفوق تأثيره تأثير المقالات والتقارير الصحفية ذاتها، فمنذ ظهوره وحتى الآن، وهو يمثّل جزءًا لا يتجزأ من التعبير الفني والإبداعي، ومؤثر فعال في الرأي العام.
وكلمة كاريكاتير كلمة ايطالية الأصل من الكلمة “كاريكاتيرا” Caricatura وتعني “يبالغ أو يحمِّل ما لا يطيق”. بهذا المعنى، وعند محاولة التأريخ لهذا الفن، يمكن إرجاع أصوله إلى العصور القديمة، فهناك العديد من الرسومات المبالغ في تفاصيلها في الفن المصري القديم على جدران المعابد، والمقابر، وقطع الاوستراكا ” أو “الشقفات الصغيرة”، كانت تحمل رسومات هزلية يعبر الفنانون من خلالها عن مواقف اجتماعية، ودينية، وسياسية، بطريقة مبالغ فيها أو ساخرة، وكذلك الحال عند اليونانيين والرومان القدماء.
ولقد بدأ الكاريكاتير كفن له أصوله، واستقلاليته، في القرن السابع عشر في أوروبا، خاصة في إنجلترا وإيطاليا؛ بهدف تسليط الضوء على الأحداث، والقضايا السياسية والاجتماعية، ووسيلة قوية للتعبير عن الآراء السياسية، والنقد الاجتماعي. وخلال القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، شهد هذا الفن ازدهاراً كبيرًا في أوروبا والولايات المتحدة. وفي مصر، انتشر هذا الفن في نهاية القرن التاسعة عشر ومطلع القرن العشرين، وبزغ فيه روادٌ كبار كانت لهم اسهاماتهم العظيمة في مجال الصحافة والفن الصحفي، تبعهم جيل من الفنانيين أثروا الحياة الفنية والصحافية والأدبية أيضًا، أمثال: صاروخان، وطوغان، وجورج البهجوري، وصلاح جاهين، وبهجت عثمان، ومصطفى حسين، وجمعه فرحات، وعبد العزيز تاج، ورمسيس … وغيرهم.
وايماناً بقيمة هذا الفن، وتوثيقاً له، ولتاريخه ورواده، وحفاظاً على بعض من تراثني الفن منه، قامت جامعة المنيا ممثلة في كلية الفنون الجميلة بافتتاح أول متحف لفن الكاريكاتير في مصر والوطن العربي، بالتعاون مع الجمعية المصرية لفن الكاريكاتير، حيث افتتحه، يوم أمس 8 أكتوبر 2024م، الأستاذ الدكتور عصام الدين فرحات معالي رئيس جامعة المنيا، والأستاذ الدكتورجمال يحي صدقي عميد الكلية، في حضور المهندس مصطفى الشيخ رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير، ونخبة من كبار فناني الكاريكاتير في مصر، ولفيف من أعضاء هيئة التدريس بالكلية والجامعة والعديد من طلاب الجامعة ومن الطلاب الوافدين من جنسيات عربية مختلفة.
ويشكّل هذا المتحف نموذجاً فريداً ومتميزاً على مستوى مصر والعالم العربي كونه الوحيد الذي يحتفي بمثل هذا النوع من الفن، في مؤسسة حكومية، ويقتني أعمالاً لرواده، ويمثل إضافة نوعية إلى المتاحف الفنية والتعليمية والجامعية. وهو عبارة عن قاعة كبيرة ملحقةً بمتحف الفن الحديث التابع لكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا، تصل مساحتها إلى 500 متراً مربعاًـ تضم مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية الكاريكاتيرية تزيد على مائتي سبعين عملاً لأشهر وأعظم فناني الكاريكاتير في مصر والعالم العربي، أمثال: صلاح جاهين، صاروخان، طوغان، زهدي العدوي، بهجت عثمان، مصطفى حسين، ورؤف عياد، محي الدين اللباد، حسن حاكم، محمد حاكم، أحمد حجازي، محمد عفت، جمعة فرحات، عبد العزيز تاج، سمير عبد الخالق، وغيرهم ممن أثروا الحياة الفنية والصحفية بالعديد من أعمالهم الفنية المميزة. بعض هذه الأعمال معار، وبعضها اهداء من فنانين، أو من ورثتهم. كما يضم المتحف مجموعة من الأعمال النحتية لدارسة ماجستير، في كية الفنون الجميلة جامعة المنيا، عبارة عن تجسيد نحتي لمجموعة من مشاهير الشخصيات تم تناولها بصورة كاريكاتيرية معبرة.
يعدُّ هذا المتحف نقلة نوعية في طبيعة المتاحف الفنية، وسجلاً توثيقياً لتراث فن الكاريكاتير، وتاريخه، وروداه في مصر والعالم العربي، ومدوناً لأحداث وقضايا، وطنية وقومية، وتخليداً لشخصيات تاريخية وفنية. وهو لا شك إضافة مميزة وفريدة من نوعها إلى جامعة المنيا، ويجعل من وجوده جنباً إلى جنب مع متحف الفن الحديث بقيمته التسويقية، وبأعماله الفنية الرائعة، وغيره من متاحف الجامعة العلمية والتعليمية، مراكز اشاعية فنية وثقافية، تساهم بشكل كبير في نشر الوعي الفني والثقافي، وتنمية الذوق الجمالي، لدى طلاب الجامعة والمجتمع المحلي، وتضع الجامعة على مسار الجامعات الكبرى التي تمتلك متاحف علمية وتعليمية وفنية مميزة، ومسارا للزيارات السياحية في محافظة المنيا.