عندما يزور رئيس الدولة الكبرى دولة حليفة، في اليوم التالي لحربها ضد قطاع صغير، تحاصره الدولة الحليفة من سنوات طويلة، في إطار احتلالها للبلد الذي ينتمي إليه القطاع، فإن المعنى الوحيد لهذه الزيارة أن الحليف يتجاوز الصفة إلى صفة، أو صفات أخرى، أترك لك اختيارها. يضيف إلى تكوينات الصورة زيارة وزير خارجية الدولة الكبرى الدولة الحليفة عدة مرات في أيام متعاقبة، وحضور مجلسها للحرب، فإن المعنى يتجاوز التحالف، بحيث تستحق الدولة الحليفة موضعًا تستحقه في خارطة ولايات الدولة الكبرى.
النغمة التي يحرص ساسة الغرب الأوروبي والولايات المتحدة. حتى هؤلاء الذين يحاولون إظهار التعاطف مع نحو 150 ألف فلسطيني بين شهيد ومصاب، في المذابح الصهيونية بقطاع غزة، أن يكون مفتتح كلماتهم، تنديدًا بالعدوان المروع – هذه هي الصفة الإسرائيلية – ضد المواطنين الإسرائيليين، أثناء حفل راقص في كيبوتز ضمن ما تسميه السلطة الإسرائيلية غلاف غزة!
يلي المفتتح – كما تعلم – دعوة إلى إيقاف إطلاق النار، ودعم المساعدات الإنسانية لحوالي 80% من أبناء القطاع في عمليات تهجيرهم القسرية من شمال القطاع إلى جنوبه، والعكس.
تكررت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن عن حق ” المختطفين” اليهود في غزة، وعن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ورأى في عمليات الإبادة التي تشنها تل أبيب على فلسطينيي غزة أمرًا مقبولًا، ووافق عليه، على أن يؤخذ في الاعتبار- حسب قول الوزير الأمريكي – أرواح المدنيين قدر الإمكان.
المثير للتأمل، وللغضب، أن بلينكن تجاهل حق شعب فلسطين في الحياة داخل حدود بلاده، التي كانت من قبل أن تنشأ دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة. كما تجاهل عشرات الألوف من الشهداء والمصابين الذين قتلهم الدمار الإسرائيلي، بدعوى أنه يحارب مقاتلي حماس.
التواطؤ الأمريكى الأوروبى لصالح المزاعم الصهيونية، فى مقابل تجاهل الحق الفلسطينى، يطرح السؤال: هل هو – كما تزعم الميديا الصهيونية – للتكفير عن جرائم الأورو أمريكيين فى حق اليهود ؟ أو للتخلص من المشكلة اليهودية بكل ما تعنيه من مجتمعات مغلقة وابتزاز ومحاولات للسلب والإفساد بتصديرها بعيدًا ، خارج الحدود ؟!
الملاحظ أنه إذا أقدمت الحكومة الإسرائيلية على عمليات تدمير، أو تصفية جسدية، معظم ضحاياها – فى الأغلب – من المواطنين العزل، فإن الولايات المتحدة – تعبيرًا عن توازن موقفها المبدئى – تدعو إلى ضبط النفس. والمعنى أن يمسك الفلسطينيون أنفسهم عن مجرد التفكير فى ردود أفعال من أى نوع. أما إذا حدث رد الفعل فى فلسطين بتأثير توالى عمليات التدمير والاغتيال الإسرائيلية ، فإن الإدانة الأمريكية تعلو وتستنكر وتدين.
في رأى سارتر أن الولايات المتحدة بلد انتقل من الهمجية إلى التمدن – بمعناه الغربى – أعنى تمدن الاحتلال والسلب والاغتصاب والمصادرة، دون أن يلامس الحضارة. الحضارة – كما نعلم – ميراث، وموروث، حصيلة معرفية وتاريخ ومعتقدات وعادات وتقاليد. ذلك كله غاب عن الزعماء الأمريكان. المقابل دهشة الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون لمطالبة العرب باستعادة الأرض الفلسطينية المحتلة: احتلوها بالسلاح، فمن حقهم أن يحتفظوا بها. فى باله حكايات المغامرين الأوروبيين، وأصحاب البلاد ممن سموا الهنود الحمر!
حتى التصور الذي يطرحه بعض من كانوا داعمين لعدالة القضية الفلسطينية، يتحدد في إقامة من تبقى من أبناء القطاع في مساحة لا تزيد عن 20% هي كل ما تبقى من بنايات.
التعبير اللغوي الصحيح أن المعتدى عليه، مالك البيت والأرض والشجر والتاريخ والجغرافيا، من حقه أن يدافع عن نفسه. وهو ما ينطبق على الفلسطينيين، وليس على الوافدين من بلاد في الشرق والغرب، وحدة الديانة هي معنى اغتصابهم وطن الغير.
طبيعى أن أي كيان استيطانى يواجه بمقاومة شديدة من السكان الأصليين. إنه يريد الإحتلال وليس الجيرة، طرد أبناء البلاد والعيش بدلاً منهم. ذلك ما حدث فى بلاد كثيرة على مدى التاريخ، وأقربه إلى الأذهان ما حدث فى جنوب إفريقيا وروديسيا ( موزمبيق ) وغيرها، وهو ما يحدث الآن فى فلسطين.
والحق أن أحداث السابع من أكتوبر ليست وليدة ذاتها ولا مصادفة، سبقها سبعة عشر عامًا من الحصار القاسي لقطاع غزة، رافقته دعوات من قادة الكيان الصهيوني بأن تصبح غزة امتدادًا لما سمي بالغلاف، من خلال التضييق على أبناء القطاع من الفلسطينيين، ومنع كل فرص الحياة الطبيعية أمامهم.
كما تعلم، فإن اشتداد فوران الوعاء المغلى يؤدى إلى انفجار يصعب معرفة تأثيراته. وإذا كان العالم قد عانى – فى سنى الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى والشرقى – سياسة حافة الهاوية التى ابتدعها جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، فإن الممارسات الصهيونية في غزة والضفة وحتى في مناطق ما ثبل 1948، كانت نذيرًا بالانفجار المتوقع.
أذكرك بالتحذيرات المتوالية التي صدرت عن حركات المقاومة الفلسطينية من أن يؤدي الحصار إلى نتائج سلبية، أخطرها ثورة الفلسطينيين دفاعًا عن حقهم في الحرية والأمن والاستقرار، لكن قادة الكيان زادوا من قسوة الحصار، فشمل منع الاحتياجات اليومية، وتحويل القطاع إلى سجن بحجم مدينة، أو مجموعة أحياء صغيرة.
مات عشرات الألوف من المواطنين الآمنين، وأصيبوا، تحت أنقاض البنايات المتهدمة. وكما قال مسئول الإعلام الحكومي في القطاع، فقد عاش القطاع جحيما من الصواريخ والقنابل الهائلة ونسف الأبراج السكنية والمساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس ومركز الإيواء، وأبيدت في المذابح عمليات بأكملها، محيت من السجل المدني!
ذلك كله يعكس الهدف الذي مثل هجوم السابع من أكتوبر نقطة الانطلاق لتحقيقه.
تغيظني عبارة” حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. ما طبيعة ذلك الحق؟ ما بواعثه؟ كيف يحول المغتصب ما استولى عليه إلى حق يحارب للدفاع عنه؟.
الثابت أنه – منذ مناقشة عصبة الأمم قضية الإرهاب فى 1937 – فإنها لم تتوصل إلى تعريف محدد له، وأخفقت بالتالى فى إحداث التوافق حول معاهدة ضد الإرهاب. وظل الإرهاب – من أيامها – عرضة لتفسيرات مختلفة، كل بقدر مصالحه وأهدافه، بل إن التفسير المحدد قد ينشطر إلى قسمين، فإسرائيل تضفى مشروعية على إرهابها ضد الأفراد والجماعات والدول، بينما وسم بالإرهاب دفاع الفلسطينيين عن حقهم فى أراضيهم السلبية.
إن ما يسمى الإرهاب الفلسطينى، أو العربى ، إنما هو – فى كل الأحوال – ردود أفعال على إرهاب الدولة الذى تمثله إسرائيل، وإرهاب الأفراد الذى يمثله جماعات المستوطنين.
هل كانت مقاومة الشعب الكينى – بقيادة جومو كينياتا – إرهاباً؟ وهل كانت مقاومة الشعب التنزانى – بقيادة جوليوس نيريرى – إرهاباً؟ وهل يسهل إلصاق تسمية الإرهاب بعامة على نضال الشعوب دفاعاً عن استقلالها؟
الوصف السهل للإرهاب هى أنه العمل السياسى الذى يلجأ إلى العنف، وسهولة التعريف أنه لم يفرق بين العمل المقاوم دفاعًا عما هو حق، والعمل الذى يستهدف المصادرة والاستلاب.
ثمة فرق بين العمل العسكرى الذى يمارسه جيش الاحتلال الصهيونى، والعمل المقاوم الذى تمارسه المنظمات الفلسطينية التى أفلتت من تأثيرات السلطة المفاوضة.
لن تنزع إسرائيل الإحساس بالخوف من نفوس المستوطنين، ما لم تمتنع عن تصدير الإرهاب إلى الشعب الفلسطينى فى الضفة والقطاع، وإلى أقطار المنطقة بعامة.
تصدير الإرهاب مثل اليد التى تتجه بالإدانة، يشير أصبع إلى الآخر، بينما تشير الأصابع الأربعة إلى الذات المتآمرة!