» بقلم ✍️أحمد رفاعي آدم (روائي وأديب)
القصة
(1)
رجع عبدُ الله ذلك اليوم من مسعاه خائب الرجى بعدما قضى جُلَّ نهاره طائفاً بأسواق بغداد ليعرض ما بقي صالحاً من بضاعته على تُجَّارها ولكن دون جدوى، قضى الله على تجارته أن تبورَ وعلى ماله أن ينقص، فضاقت عليه نفسُه وضاقت عليه الدنيا بما رحُبَتْ حتى كادت تبدو له رغم اتساعها أضيق من ثقب إبرة. ولمَّا يَئسَتْ مساعيه وتَعبتْ أقدامُه وهدَّه الحزنُ لجأ إلى شجرة سنط ضخمة تقوم على ضفة الفرات فجلس في ظلها وأسند ظهره إلى جذعها ورمى ببصره إلى الأفق وجعل يفكر محزوناً في أمر تجارته التي بارت. أهي عينُ حاسدٍ أصابته؟ أم هو عقابٌ من رب السموات نظيرَ ما فرَّط في سالف الأيام؟ أم تراه ابتلاء أصابه اللهُ به ليختبرَ صبرَه وجلَدَه ويقينَه فيه؟
وتذكَّر المسكينُ أيامَ عزه وهناءة عيشه، ثم نظر في حاضره وقد ضاقت به الحال وقلَّ في يده المال وسُدَّتْ في وجهه أبوابُ الأعمال فتوجع وامتلأ حزناً على حزنه وصعُبَت عليه نفسه وحار فكرُه فما وجدَ له من مَلجأٍ إلا أن يرفعَ أكُفَّ الضراعة إلى السماء ويقول:
– يا رب ما لي سواك أدعوه وأرجوه، وهذا حالي لا يخفى عليك .. ضاقت عليا الدنيا وحارت بي السبل وتعب مني الجسد ووهنت القوة .. اللهم فرج ما بي من كرب وأذهِب ما بي من حزن وأزحِ عني هذه الغُمة .. اللهم إنك تعلم أني أحبك وأبذل قصارى جهدي في طاعتك محبةً لك ورغبةً في الفوز برضاك فإنَّ برضاك الدنيا تطيب .. اللهم ارض عني وفرج همي وانقذ تجارتي ووسع لي في رزقي ولا تشمت بي الأعداء.. اللهم برحمتك اصرف عني ما قد نزل، واحلل بلطفك عقدة أمري واحفظني من الزلل. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا .. اللهم لا اعتراض ولكن رضًى وتسليم .. اللهم لا اعتراض ولكن رضًى وتسليم.
وجعل يرددها حتى رقَّ قلبُه وسال دمعُه، وبدا كأنه غاب عن الدنيا فغلبته عيناه ونام. فإذا به يرى في منامه كأن هاتفاً يهتف به: “إن رزقك في مدينة القطائع في مصر”، ويُعَيّنُ له البيت الذي فيه الرزق والحارة التي فيها البيت. استيقظ عبد الله مذعوراً وصدى الهاتف يطنُّ في أذنيه، وتلفتَّ حوله فلم يجد سوى الفراغ ولم ير إلا الفرات ينساب ماؤه في تؤدة ويسر، ورما ببصره إلى الأفق فإذا الشمس قد غابت والظلام قد بدأ يتسلل فوق التلالِ القريبة فنهض ومضى إلى داره بقلبٍ واجفٍ وذهنٍ منشغل بتلك الرؤيا العجيبة.
وبلغ الحي الذي يقطن فيه وإذا صوت المؤذن ينادي لصلاة العشاء، فدخلَ المسجد ليصلي، وكان من عادته أن يقوم أول الليل بركعات يصليهن عقب الانتهاء من صلاة العشاء، وكذلك فَعَلَ تلك الليلة، فما أن أنهى الإمامُ صلاتَه حتى قام عبد الله يتركَّع، واندمج في صلاته فأطال القيام وخشع في الركوع وأكثر من الدعاء في السجود حتى فرغ المسجد من المصلين، وبعدما صلّى ما شاء الله له أن يصلي أسند ظهره إلى جذع نخلة قائم في صحن المسجد وأغمض عينيه، وعلى غير العادة غفى، فإذا بالهاتف يأتيه من جديد: “إن رزقك في مدينة القطائع في مصر”، ويُعَيّنُ له البيت الذي فيه الرزق والحارة التي فيها البيت. فانتفض مذعوراً وأصابته رعشة ارتج لها جسده فجعل يذكر الله ويصلي على النبي إلى أن سكَنَتْ روحُه وعاودته رباطةُ جأشه، فغادر المسجد إلى داره وفكره في قمة الانشغال.
(2)
انقضى أسبوع كانت لياليه هي الأغرب على عبد الله. كيف لا وقد تكرر الهاتف واستمر يرى تلك الرؤيا كلما نام أو حتى أخذته مجرد سِنة، حتى أيقن أنها رؤيا حق وأنه ملبٍ لا محالة، فلم يعد من السفر بد!
جمع عبد الله من المال ما استطاع جمعه وسافر إلى مصر. وكان ذلك أيام النزاع بين (الموفَّق) أخي الخليفة العباسي و (أحمد بن طولون) الذي استقل بمُلك مصر وخرج على الدولة العباسية وبنى مدينة القطائع، وهي بين الفسطاط (مصر القديمة) والقاهرة (التي أُنشئت بعدها).
ولسوء حظ عبد الله كان الخلاف بين بن طولون والخليفة العباسي في ذلك الوقت على أشده، وكذلك المصائب لا تأتي فرادى، بل زرافاتٍ زرافات! لم يكف المصائب ما حل بتجارته من كساد وما نزل ببضائعه من بوار، فضربته بمصيبة أكبر. ذلك أنه لم يكد المسكين يصل إلى مدينة القطائع ويذهب إلى البيت الذي حُدَّدَ في المنام حتى قُبِض عليه وسيق إلى السجن لإن الدار التي بلغها لم تكن سوى دار صاحب الشرطة (مدير الشرطة)! أيُّ نحسٍ وأيُّ حظٍ عاثرٍ ذاك الذي أصابه! بات عبد الله ليلته الأولى في مصر في زنزانة السجن، وهو من هول الصدمة لا يكاد يصدق، حتى ظن أنه في حلم، فلما سيق في الصباح إلى حجرة صاحب الشرطة أيقن أن ما هو فيه حقيقة لا محالة.
وقف عبد الله مصدوماً أمام صاحب الشرطة الذي كان يجلسُ خلف مِنضدةٍ مُكَدَّسةٍ بالسيوف من مختلف المقاسات والأنماط، وقد سيطر عليه خوفٌ عظيمٌ اجتمعتْ فيه ظلمةُ السجنِ وظلمةُ الوحدةِ وظلمةُ الغربة، فاستغرق لجَزَعِه لحظات ليدرك أن الرجل يسأله عن سبب سطوه على داره، فلما تلكع في الرد ضربه جندي فظ بعصا على مؤخرة رأسه فآلمه، وهتف به أن “أجب رئيس الشرطة”، وتلعثم عبد الله فلم يجد ما يقوله وقد نزلت عليه التهمة كالصاعقة، لكنه استجمع قوته أخيراً وقال بصوت مرتعش:
– لم أكن أعرف أنها دار رئيس الشرطة، فأنا غريبٌ من بغداد، والغريب أعمى يا سيدي ولو كان بصيراً.
فصاح به صاحب الشرطة وهو يضرب بقبضة يده على المنضدة:
– ها .. قلتَ لي .. أنت من بغداد! إذن أنت جاسوس، وما أتى بك إلى القطائع الإ نيتُك الخبيثة لجمع أخبار الأمير بن طولون، انطق .. من الذي أرسلك؟!
ونزل الإتهامُ الثاني عليه كالسهم أصاب منه مقتلاً فصمت ولم يقدر على الرد، لقد عقدت الصدمة لسانه، فجمُدَ كالصنم، فما كان من صاحب الشرطة إلا أن أمر بالفلق (الفلكة) فجيء بها، فوضعوا رجليه فيها وجعلوا يضربونه وهم يُقَرِّرُوه ليعترفَ فلم يُقرَّ بشيء لأنه لا يُخفي شيئاً، وزادوا في ضربه ليصلوا إلى إقراره، وهو يقسم لهم أنه لا يعرف شيئاً وإنما هو منامٌ رآه.
وكانت العبارة الأخيرة كفيلة بأن تجذب انتباه صاحب الشرطة، منام رآه؟! أي سخف وأي جنون هذا الذي قد يدفع برجلٍ ليرتحل عن موطنه ويترك أهله ويقطع الأرض مسافراً فيضرب في الفيافي والوديان ويعبر النهر والبحر لمجرد أنه رأى مناماً؟ فلما رأى من عبد الله إصراره العجيب -رغم الضرب الشديد- على جوابه، استسلم وأمر عساكره أن يفكوا وثاقه ويطببوا جراحه ويطعموه ويسقوه فإذا شفي عادوا به إليه ليسمع خبره! لقد تملكه فضولٌ عظيم ليعرف كنه ذلك الأحمق والسر العجيب وراء حكايته.
(3)
مكث عبد الله في زنزانته أسبوعين وهو يتلقى العلاج والرعاية إلى أن شُفيت جراحه وعادت إليه صحته، ثم أُمر به فأُحضر من جديد إلى حجرة صاحب الشرطة الذي عاود التحقيق معه -ولكن هذه المرة- برفقٍ ولين، ولما لمس عبد الله منه تلك الرحمة امتلأت نفسه ثقةً فتحدث حديث الواثق فقال:
– اسمع مني يا سيدي فإني أصدُقُك القول، والله على ما أقولُ شهيد. ما ساقني إلى ها هنا إلا رؤيا ألحَّتْ علي، وهاتفٌ لم ينقطع عني، يخبرني أن رزقي موجود في مدينة القطائع في مصر، فلم أُكَذِّبْ خبراً، فحملتُ مالي وزادي وعدتي وعتادي وجئتُ أبحثُ عنه. فلما بلغتُ المكان الذي حُدّدَ لي في المنام لم أنتظر فدخلتُ كالمسطول، فإذا به لسوء حظي يكون دارك يا صاحب الشرطة! هل رأيتَ في حياتك منحوساً مثلي يا سيدي؟ أُتعبُ جسدي وأصهر روحي وأقطع كل تلك المسافة من أجل أن يُقبضَ علي وأودع السجن! يا له من رزق!
فلما انتهى من مقالته، ضحك صاحبُ الشرطة حتى كاد يستلقي على قفاه، ثم قال:
– والله إنك لأحمق؛ أنا أرى من سنين مثلَ هذا المنام وأسمعُ قائلاً يقول لي: “إن رزقك في بغداد في الدار الفلانية في الطريق الفلاني تحت نخلةٍ فيها”، فأُعرِضُ عن المنام ولا أهتم به. ولو كنت في غبائك لسافرتُ ولربما كنتُ الآن أسيراً في سجون بني العباس.
ثم نهض الرجل الضخم وضحكه المجلجل لا يتوقف، وقال لنائبه:
– اطلقوا سراحه .. فإنَّ أصحاب العقول في راحة!
وضحك الجمعُ بمن فيهم عبد الله الذي لحق بصاحب الشرطة قبل أن يخرج وجعل يقبل يديه وهو يقول بحماسِ المخابيل:
– شكراً لك يا سيدي .. أشكرك من كل قلبي .. والله ما في كتب العرب ولا العَجَم ما يوفيك ما في قلبي من شكرٍ وامتنانٍ .. بارك الله فيك.
(4)
عاد عبد الله إلى بغداد، وانطلق إلى داره مهرولاً لا يُسَلّمُ على أحدٍ، ولا يرد سلامَ من يلقاه، حتى ظن الناس إنه قد جُنَّ أو التاث، فلما بلغَ الدار ركلَ الباب بقدمه وشخص ببصره إلى النخلة الوحيدة القائمة فيه، ثم خرَّ على الأرض ساجداً وبللَّ بدمعه الثرى. لم تكن الدارُ التي ذكرها صاحبُ الشرطة سوى داره، والنخلة التي عيَّنَها فيها إلا هذه النخلة! ولم تنقضي تلك الليلة إلا وعبد الله قد انتتهى من الحفر تحت النخلة واستخرجَ منها جرَّةً ممتلئةً بالدنانير!!!!!!
-تمت-
🍂
العِبرة
يشتكي كثيرٌ من الناس من قلة الرزق أو من تأخره مع علمهم بحقيقة أن الرزق مقسوم. وذلك طبعُ الإنسان وديدَنُه منذ وَطِئتْ قدماه الأرض، وهل كان الدافع وراء أول جريمة على ظهر البسيطة إلا عدم الرضا بما قدَّر الله حينما قتل قابيل هابيل؟ إذن أمرٌ طبيعي أن يشعر الإنسان بالأسى ويتأثر لضيق ذات اليد، ولكن الغير طبيعي أن تسيطر عليه هذه الهواجس فتتحول -درى أم لم يدر- إلى أفكار وسلوكيات تكون نتيجتها القنوط والسخط واليأس والشكوى عمال على بطال!
فالرزق مقسوم ولا شك. قدَّر ذلك من بيده ملكوت السموات والأرض، مَنْ أمْرُه بين الكاف والنون، إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فلا داعي للقلق ولا حاجة للتبرم فإن الذي ضمن لك رزقك هو الله الذي قال في محكم تنزيله: (وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون). فعلام القلق والتوتر وأنت تعلم (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)؟
الرزق مقسوم ولكن العمل له واجب. يقول الله عز وجل (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (اليد العليا خير من اليد السفلى) ولا شك أن اليد العليا هي التي تعمل وتكد وتطلب الرزق بالحلال. ويقول الشاعر العربي:
كلُّ من في الوجود يطلبُ صيداً … غير أن الشباك مختلفاتُ
الرزق مقسوم والعمل له واجب والسعي في طلبه فرض ولكن كثيراً من الناس لا يفقهون ذلك ولا يريدون أن يذكرهم أحدٌ بذلك، فتراهم يجلسون في أماكنهم لا يبرحونها ولا يكلفون أنفسهم مِثقال ذرةٍ من مسئولية أو عمل، وذلك لعمري خطأ فادح، فالعمل والسعي هو سنة الحياة وهو دأب الأنبياء والمرسلين والصالحين، يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة”.
أيها الناس، إن الله هو الذي قسم الأرزاق وكتب لكل نفس رزقها وأجلها، ولكنه ما قال لنا اقعدوا حتى يأتي الرزق إليكم، بل قال لنا امشوا في مناكبها وكلوا من رزقه. ولفتةٌ جميلة ذكرها الشيخ علي الطنطاوي في كتابه (نورٌ وهداية) يقول فيها: “لقد أقسم ربنا في كتابه بكثير من مخلوقاته؛ أقسم بالشمس وضحاها، وأقسم بالليل، وأقسم بالفجر، فلما ذكر الرزق أقسم بذاته جل جلاله فقال: “وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والأرض إنه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون.”
وهذه القصة التي بين أيديكم والتي جعلت عنوانها نفس عنوان المقال (الرزق مقسوم) ذكرها التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة)، ومفادها أن الرزق مقسوم، فما كان لك سوف يأتيك على ضعفِك وما كان لغيرِك لن تنالَه بقوتِك، ولكن اذكر دائماً أن الذي كتب لك هذا الرزق أوجب عليك العمل، وأن التوكل على الله لا يكون بترك الأسباب. فالله هو المعطي والمانع، وما يمنع الله أحداً شيئاً إلا عوضه بشيءٍ خير له منه. واعلموا أن الرزق أكثر من أن نحصره في المال، فالصحة رزق، والستر رزق، والزوجة الصالحة والذرية الطيبة رزق، والقرب من الله والأنس به أعظم رزق، والاستقرار والسكينة رزق، وحسن الخُلُق رزق، والأقارب والأصدقاء والجيران رزق، وهكذا دواليك والقائمة تطول! “وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها” صدق الله العظيم.
والحديث في هذا المجال يطول ولا ينتهي، فنكتفي بهذا القدر، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. رزقنا الله وإياكم.