المعنى الذي نستخلصه من دعوة ترامب لنتنياهو بوقف الحرب -هذا هو المعنى الوحيد الذي خاطب قناعتي – قبل أن يعود إلى البيت الأبيض في يناير القادم، أن الرئيس الأمريكي المنتخب يتيح لنتنياهو – مطارد الجنائية الدولية – أن يواصل جرائمه حتى ذلك الموعد.
للأسف فإن المبررات التي ساقتها قيادات الجاليتين الإسلامية والعربية للإدلاء بأصواتهم، لصالح ترامب، أنه دعاهم إلى مقر حملته الانتخابية، طالبوه أن يقدم على هذه الخطوة، فيزورهم في مقرهم، وهو ما حدث بالفعل، زارهم الرجل ذو التفكير البرجماتي ( للعلم، ترامب من أغنى خمسمائة رجل في العالم )، وتحدث إليهم بما يزيل الفكرة التي تكرر تجسيدها – من خلال قرارات وتصرفات وأقوال – عن تأييده المطلق للكيان الصهيوني.
أما كاميلا التي تمثل -بسكوتها عن الجرائم الإسرائيلية، ودعم الكيان بالأموال والسلاح، بل ومشاركة القيادة العسكرية الأمريكية في وضع الخطط التي تحكم جرائم التدمير والإبادة والمحو-فقد تغافلت الدعم العسكري والرأسمالي الذي منحه بايدن-معتزًا- إلي إسرئيل لتواصل جرائمها في غزة ولبنان، وأنه أكبر دعم قدمه رئيس أمريكي، واكتفت بإظهار الحزن على ضحايا أبشع جرائم العصر الحديث ( يحدثوننا عن الهولوكست! ) ولم تكلف خاطرها زيارة القيادات المسلمة والعربية، لذلك فقد خاصموها، ومنعوا عنها أصواتهم التي اتجهت إلى المرشح الجمهوري.
منطق عاطفي وساذج كما ترى، يخلو من النظرة الاستراتيجية التي تصل ما قبل، بالأوضاع الحالية، باستشرافات المستقبل. ولو أن القيادات أحسنوا التدبر لاستعادوا دعم ترامب المعلن بقرارات خطيرة، ألقت بكل شيء في سلة الكيان: الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل، ومنحها الجولان السورية، ربما لأنه اعتبرها من الأملاك التي ورثها عن أبيه! – والدعوة إلى ضرورة توسيع مساحة إسرائيل، بالاستيلاء – طبعًا – على المتبقي من أرض فلسطين، فضلًا عن المتاح من الأرض العربية عمومًا.
ذلك كله حفز قادة الكيان إلى المجاهرة بالتطلع إلى مجاوزة الواقع بكل ما يحيط به من ملابسات، إلى دولة إسرائيل الكبرى، وهو ما ردده نتنياهو وبن جافير وسموريتش وجالنت وجانتس وغيرهم من القادة السياسيين والعسكريين.
ولعله يجدر بنا التنبه إلى خلفية التطورات التي تصاحب العملية الانتخابية في الولايات المتحدة، وبرامج الحزبين الرئيسيين، وقرارات المؤسسات الحاكمة، سواء رئاسة الدولة، أو مجلسي الشيوخ والنواب. الدولة العميقة هي المعنى الذي نستطيع أن نتبينه عبر تطورات الأحداث في فلسطين المحتلة. الدولة العميقة تتجاوز ترامب وهاريس والجمهوريين والديمقراطيين، تفرض رؤاها بما تقتضيه مصالحها. وإذا كان معنى الدولة العميقة يتحدد – بالنسبة لمعظم دول العالم – في مؤسسات الحكم، فإن المعنى في الولايات المتحدة له أبعاده الرأسمالية التي تخضع كل شيء لإرادتها ( الميديا بنفوذها الطاغي، شركات تصنيع السلاح، شركات الأدوية )، حتى العملية الانتخابية تسهم فيها بما قد يرجح مرشحًا على سواه، مليارات الدولارات هي المحرك الفعلي للانتخابات وما يعقبها من صورة الحكم.
حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها نغمة وحيدة يرددها غالبية زعامات الغرب، متناسين أن هذا الحق” الكاذب” نتيجة حرب مدمرة، أحلت بغرباء محل أصحاب الأرض، بدعوى أنها أرض بلا شعب، استولى عليها شعب بلا أرض، ثم غلفت الأكذوبة بدعاوى دينية وأسطورية، يرفضها قطاع عريض من معتنقي الديانة اليهودية، وينظمون المظاهرات تأكيدًا للرفض.
واشنطن هي الحاكم الفعلي للكيان الصهيوني، تلك هي قناعة الكثير من المتابعين لتطورات الأحداث. والحق أن ذلك التصور يلغيه دور اللوبي الصهيوني في صياغة السياسة الأمريكية.
لا قيمة لانتخابات أفقها فلسطين المحتلة، محركها أدوات تتيح الاستباحة لمتشردي الغرب من خلال الصلة العميقة بين الكيان وممثليه في الولايات المتحدة.
إذا كنت متقدمًا في السن مثلي، فلابد أنك تذكر المظاهرات التي شكلها مائة ألف كورى، خلال ساعات، احتجاجًا علي قتل الشرطة الأمريكية لمواطن أمريكي من أصل كوري.
من هنا، فإني أذكرك بأهمية أن يكون للوبي العربي والإسلامي مكانته وتأثيره، حقيقة إن لم تكن موجودة فلابد أن توجد.
دعوت إلى تقوية اللوبي العربي في الولايات الأمريكية بما يتيح صوتًا أعمق، وآراء نافذة. لم أتوقع للوبي العربي، في حال وجوده الفعلي، أن يبدل الصورة الثابتة منذ عشرات السنين، لكنني أردت أن أضيف تكوينًا جديدًا، يمثل – بتعاظمه – صورة المستقبل.
الصندوق الانتخابي هو الذي يحكم الولايات المتحدة. مفتاح الصندوق – عبر العقود الأخيرة – في يد اللوبي الصهيوني. مع عدم إطلاق فترة الهيمنة الصهيونية على الصندوق الانتخابي، وعلى سير العمليات الأمريكية بتعدد مستوياتها، لأن الصورة في عهد الرئيس الأسيق أيزنهاور – مثلًا – لم تكن كذلك. فقد فاز في انتخابات الرئاسة رغم معارضة اللوبي الصهيوني. وكان لإنذاره – إلى جانب إنذار الزعيم السوفييتي بولجانين – تأثيره في انسحاب إسرائيل من سيناء، بعد أن شكلت في عدوان 1956 على مصر قوة تابعة لفرنسا وإنجلترا، ووجد بن جوريون في الانسحاب المصري من سيناء ما يغري بضمها إلى بلده، لولا وقفة أيزنهاور الصارمة، في موازاة الإنذار السوفييتي بالمعني نفسه.
لكن الصندوق الانتخابي – في تعاظمه – هو الذي أملى على ترامب إعلان شطري القدس – تجاوزًا للقرارات الدولية – عاصمة لدولة إسرائيل، وأبدى الرئيس الحالي بايدن اعتزازه بالحركة الصهيونية، وأنها لو لم تكن موجودة لاخترعها.
كما ترى، فإن الصورة اختلفت: التقى ترامب قيادات العرب والمسلمين، وقدم وعودًا لن يحاسب – في انتخابات مقبلة – على تغافلها، لسبب بسيط، أن الدورة الثانية الحالية، هي آخر عهد الرئيس الأمريكي بالبيت الأبيض، فللرئيس دورتان متصلتان، أو منفصلتان، بحيث يسهل عليه المغادرة بعد أن يحرق مراكبه!
إلى متى نجتر القول – بمرارة – إننا نحسن إهدار الفرص؟!