بقلم ✍️ أ.د مها عبدالقادر
(أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر)
التطرف هو مفهوم يشير إلى تبني آراء أو سلوكيات متشددة قد تؤدي إلى العنف أو التمييز أو الانغلاق الفكري وهو نتاج تفاعل معقد بين القناعات الشخصية والبيئة الاجتماعية، ويجب أن نتعامل معه بحذر ووعي لفهم جذوره وطرق مواجهته بشكل فعّال؛ فعندما ينحرف الإنسان عن طريق النسق القيمي التي نشأ عليها المجتمع وقبلها وسعى إلى نشرها وحمايتها بكل الوسائل والأساليب، كما تتنافى مع معايير بناء المجتمعات السليمة والصحية والقوية؛ ففي النهاية يؤدي هذا الأمر إلى الصراع، وأنماط من العنف، والتطرف.
ويدور التطرف حول ميل الأفراد أو الجماعات إلى الانحراف عن الاعتدال والسماحة والوسطية في أفكارهم ومواقفهم وسلوكياتهم، وتنطلق المبادئ التي يتبناها المتطرف من إيمانه العميق بمعتقدات وقناعات معرفية مزيفة وكاذبة وتفسيرات مضللة، ولذلك فهو يدافع عنها بشكل مفرط، مما يدفعه إلى استغلال كل ما هو متاح له من وسائل مع من يحاول مقاومته بالقول أو الفعل، ومن ثم يتبنى الأفكار المتطرفة والإرهابية بشكل نفسي أو جسدي أو فكري لمحاربة كل ما يقف حجر عثرة في طريق تحقيق ما يؤمن به من مبادئ يقوم عليها هذا الفكر المتطرف الذي آمن بها.
كما أن هناك جانب لا ينبغي أن نغفله، وهو إنكار الإنسان للصواب رغم تبيان شواهده ودلالاته ومعناه، وإذا بحثنا عن الأسباب قادنا إلى قناعته الفكرية وما تؤكده العقيدة الفكرية التي تنادي بها الجماعات المغرضة وأصحاب الأجندات التي ترى أن الخراب والدمار منهجية للإصلاح مهما سالت دماء وهتكت أعراض وهدمت صوامع وقوضت نهضة وحل الإرهاب والخراب بميادين الحياة.
ويرتبط التطرف بالأمن الفكري بطرق متعددة؛ فالأمن الفكري يعني حماية الأفراد والمجتمعات من الأفكار المتطرفة التي قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي أو السياسي كما يسعى الأمن الفكري إلى نشر قيم التسامح والسلام والأمن وتقبل الآخر والقبول بالتنوع الفكري والثقافي، وفي المقابل يمكن أن يؤدي التطرف إلى تهديد الأمن الفكري من خلال نشر الأفكار الضارة التي تحض على الكراهية والعنف، مما يؤثر سلبًا على التفاهم والاحترام المتبادل وتأجيج الانقسامات الاجتماعية بين الجماعات المختلفة، مما يوجد بيئة من التوتر والصراع.
وتتجلى أهمية التفاهم والانسجام في بناء المجتمعات القوية والمتماسكة؛ فالعصبية، بكل أشكالها، تعيق تقدم الأمم وتخلق الفتن والفرقة، ولقد حذر الإسلام من هذه الظاهرة، ووجه دعواته نحو تقوية قيم التآخي والتعايش السلمي؛ فالمجتمع الذي يسود فيه الاحترام المتبادل وقبول الآخر هو المجتمع الذي يمكنه تحقيق أهدافه النبيلة؛ فالتعايش السلمي لا يقتصر فقط على التفاعل بين الأفراد، بل يشمل أيضاً العمل معاً نحو بناء مستقبل أفضل للجميع، بغض النظر عن الاختلافات؛ ففهم الآخر وتقبل اختلافاته هو الأساس لتحقيق التنمية والازدهار.
ونرى هنا أن الوسطية التي تنادي بها جميع العقائد السماوية وفي مقدمتها العقيدة السمحة التي جاء بها خير خلق الله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم؛ حيث إن الاعتدال وتجنب تجاوز الحدود في شتى الأمور العقدية وحتى الدنيوية من المقاصد الرئيسة التي تنادي به سائر العقائد دون جدال؛ فلا مكان للتشدد ولا موقع للغلو ولا قابلية لصور التطرف وما يتمخض عنه من إرهاب، وديننا الحنيف واضح في دعواه ومنهجه.
ونحن في أشد الاحتياج إلى أن نعضد ماهية الفطرة التي جبلنا عليه؛ فالدين والتدين يعني انسجام الإنسان مع فطرته وترجمة الأقوال لأفعال بما يؤدي إلى سلامة تفكيره وصحة بدنه وحفظ وصون عرضه ومقدراته، وبما ينعكس إيجابا في تعاملاته مع الآخرين؛ فيترك الأثر الطيب والغرس الثمين ولا يحمل نفسه أو غيره ما لا يطيق؛ لذا هناك ضرورة ليتناغم الأفراد وخاصة الشباب قادة المستقبل مع النسق القيمي للمجتمع.
وفي هذا الصدد ينبغي علينا مساعدة الشباب على مواجهة مشاكلهم ومساعدتهم في حلها، وأن نعي أهمية ملء وقت فراغ الشباب بأمور نافعة في كليتها؛ حيث توفير فرص للعمل والقراءة الحرة وصور الأنشطة التي تسهم في تنمية الخبرات النوعية وتلبية الاحتياجات وتجنب كبت الرغبات التي تخلق في النفس عقد سلبية تعد بمثابة محبطات حيال النظرة التفاؤلية للمستقبل؛ فحينئذ يلجأ الفرد لأن يحقق أهدافه الشخصية وإن تعارضت مع النسق القيمي والوازع الديني القويم.
ويعد الأمن الفكري عامل رئيس من الجهود المبذولة لمواجهة التطرف، ويشمل مجموعة من الوسائل والآليات التي يمكن تبنيها لتعزيز الوعي والحماية ضد الأفكار المتطرفة وأهمها متابعة الجماعات المتطرفة وتحليل أنشطتها للتصدي لتأثيرها السلبي إلي جانب التعاون مع الجهات الدولية لتبادل الخبرات والمعلومات في مجال مكافحة التطرف، والاهتمام بتنمية الوعي والتوعية بقيم الاعتدال والتسامح ونبذ الكراهية والتمييز من خلال برامج تثقيفية وتوعوية، تضمين المناهج التعليمية القيم الديمقراطية وتنمية المهارات الفكرية النقدية للطلاب، واتباع أسلوب التواصل الإيجابي من خلال التشجيع علي الحوار والتواصل بين مختلف الجماعات والثقافات لتعزيز فهم متبادل وتقبل الاختلاف والتحلي بالاستجابة السريعة والتصدي للشائعات وللمحتوى المتطرف على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل فعال وسريع، مع الاهتمام بتنمية قيم الانتماء والهوية الوطنية كوسيلة للوقاية من الانزلاق نحو التطرف.
ويتضح مما سبق أن التطرف يشكل تهديدا كبيرا للأمن الفكري، وتتطلب مواجهته تضافر الجهود بين جميع فئات المجتمع والدولة، من خلال التعليم والتوعية؛ لصقل البنى المعرفية بصحيح المفاهيم؛ فلا يترك ممرًا لمنحرف الفكر والمشوه منه، ويصبح لديه المنعة في أن يدفع عن نفسه وغيره مسببات التطرف، إلي جانب الاهتمام بغرس القيم النبيلة ونشر ثقافة التسامح وحقوق الإنسان بمختلف المناهج التعليمية والبرامج المجتمعية، ودعم الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تنمي من قيم الانفتاح والتنوع، كما أن هناك أهمية للحوار المفتوح بين الثقافات والأديان حيث يعد أمرًا أساسيًا لتعزيز الأمن الفكري. يساعد الحوار على فهم وجهات النظر المختلفة وتقليل التوترات، لبناء مجتمعات أكثر استقرارا وأمانا.