»»
ويتواصل اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات أدباء ومواهب أرض الكنانة.. ونعرض في هذه السطور رؤية نقدية للأديب أشرف بدر حول قصة” زحام من النعم..وأشياء أخرى”
للأديب المستشار أحمد فودة..
🍂
رؤية نقدية
بقلم ✍️ الأديب أشرف بدير
( عضو لجنة التسامح المجتمعي باتحاد الكتاب)
إنَّ اختيارَ الأديب – عامة – لفَنِ القصَّة القصيرة، لونا أدبيا شَائقا جاذِبا، وفنا راسِخا واعيا من فنون الأدب، لهو اختيارٌ موفَقٌ في أغلب من الأحَايينِ، يتناسبُ مع حَياةِ الواقع اليومي التي يعيشُها الإنسانُ، و الذي يجمَعُ فيها الأديبُ بين الواقعِ المُعاش و الخيالِ المنشودِ، فيحيطُ بها مَكامِنَ الألم لديه، و يخاطِبُ فيها نبضَه و عقلَه و وجدانَه .
فالقصَّةُ القصيرة بمثابة مرآةٌ تعكس حياةَ الناس بحُلوِها و مُرِّها، فيراها المتلقي مصْقولة مُجلَّاة راكزة، تَرصدُ بحق ما يَحمِلون على كواهِلِهِم من صخورٍٍ ثِقالٍ، لِتنوء بها أعناقُهُم الضعيفة، التي أنهكتها أوجاعُ الحياة، حتى سَئموها حَدَّ اليأس، زَهدوها حدَّ المَلل، يُسلِّطُ القاصُّ بها الضَّوءَ على ما غَارَ بطَيَّاتِ نفوسِهم، و يرصدُ بها ما غاصَ بأعماقِ أفكارِهم، و يطْرحُ فيها ذروةَ أطماحهم، و يُجسِّدُ بها أجملَ وأعذبَ أحلامهم .
الرؤية:
وهذه قصَّةٌ حياتيَّة من الواقع المحيط بنا، يسردها الكاتبُ بأسلوب الراوي من داخل الأحداث، بضمير المتكلم، يبدأ فيها نَصَّه بتأوُّهٍ طويلٍ، يخرُج مع نَفَسٍ مشْحونٍ بالألم، يُعبِّر عن حالة من الإرهاق الشديد، جَراء يوم من العمل الشَّاق، ينهي به أسبوعا أكثر عناء . ” آه .. تنهيدة طويلة حارة سافرت من انفاسي مغادرة تودع أخر ساعات العمل هذا الأسبوع ” ، و يخفف من ذلك؛ مشهدُ الغروب الجميل الذي يبعث لديه مشاعرًا من الهدوء النفسي، لكن سرعان ما يصيب الكاتب غصَّة من أفعال البشرغير السَّويَّة ” يرمون القمامة تظهر من حفر الطريق كفانتازيا مجنونة لأكياس الزبالة على سطح القمر ” التي تخلف مشاهدَ القُبح، و تطغى على جمال الطبيعة، فتطفئ في أعيننا _ من قبحها _ جمال الأرض كما هو حال الحفر التي وُصِم بها ذاك القمر رغما عنه، في ربط لا يخلو من الرمزية بين ما يحدث على سطح الأرض و ما يحدث على سطح القمر .
ثم يواصل الكاتبُ بسردٍ شائقٍ، ما يعترضه من حماقات بعض الصِّبيةِ المُتلبِّسين لشخصيات أفرزتها الدراما التجارية الفجَّة. ” فسيارتي تتحاشى الاصطدام بأشباه الالماني وعبده موته قائدي التوكتوك الذين يخرجون من المشهد والكادر عكس سير الإتجاه و الموسيقى التصويرية الصاخبة منهم تختلف في الكلمات وتتفق في العقوبة ” و كأنهم يعزفون لحنا نشاذا تأبى الآذان أن تسمعه، كما تأبى سيارته أن تقبله إلا بشقِّ القيادة و السَّير.
و يستأنف الكاتب ساردًا برشاقة رحلتَه الشَّاقة على النفس، مما يراه من مشاهد صاخبة، ضد طبيعة البشر، وضد مقدرة الآلات كذلك، فتلك السيارة التي تسير أمامه و يُحمِّلها قائدُها ما لا تطيق، ليئنَّ مُحركُها رافضا هذا الظلم البيِّن ” استمع سبابًا من محركها الجاز… وأطلق أبخرته السوداء في وجهي” و كأن محرك السيارة يستغيث بمن يُخلِّصه من هذا السائق الظالم، أو يستصرخ كلَّ مسؤول ليَحمِل عنه الظلم الواقع عليه ” ولسان حاله يقول أنا عاوز أحد السادة المسؤولين يسمعني” كأنه يصرخ بصوتٍ عالٍ مبلِّغًا بحقٍ عن واقعة ظلم و جُرم هذا السائق الجائر.
و في مشهد غاية في السُّخرية، يعرض لنا الكاتب حال الأشياء _فاكهة الموز _ المشرئبة أعناقُها من صندوق السيارة، و التي لا يعنيها كل ما يحدث من حولها، بل إنها لا تعبأ بتاتًا بهذا الصِّراخ الصادر من محرك السيارة، ” أما الموز الذي أعلى الصندوق فبدا غير مهتم على الاطلاق والدنيا بحالها ومسؤوليها لا يعنوه”، و كأن هذا الموز _ في حالتهِ من اللامبالاة _ يمثل كثيرًا من البشر في سلوكهم، فلا يأبهون بالذين يعانون من حولهم، حتى لو كانت تلك المعاناة بسببهم.
وينهي الكاتبُ هذا المقطع القصصي بعبارة أكثر عمقًأ، واصفًا في أسى ما يختلجه من أفكار وكلمات غير لائقة للبوح بها: ” أما أنا مستغرق داخلي في كلمات لا تليق”
ثم يروي لنا الكاتب ما بصُر به في هذا المشهد الفوضوي، فهذا الإنسان الذي يشبه المومياء، التي فرت هاربة من تابوتها عبر آلاف السنين، كان يُخرِج قدمَه من نافذة السيارة، في مشهد عَبثيّ صوره الكاتب ببراعة شديدة، وكأنه لا يعبأ بأحدٍ، فيُخرج قدمَه في وجه العالم كله : ” قدم سوداء لمومياء مصرية لعنت لفائف الكتان منذ السبعة آلاف عام للحضارة وتركت نفسها للهواء الطلق .. خرجت بحرية من نافذة سيارة الموز وتدلت ورأيت أصابعها تلعب كعازف بيانو محترف يعزف للزمن ”
و كان هذا الرجل يمسك بسباطة موز مما تحمل السيارة، كان يأكل من ثمراتها بنَهم شديد، كأنه ينتقم من حالة اللامبالاة التي تعتنقها شقيقاتها في الصندوق، ثم يُلقي بقشرتها من نافذة السيارة، فتلتطم بشدة بمقدمة ” توكتوك” يسير خلف السيارة، كأنها تصفعه عقابًا له عما يقترف من مخالفات طوال يومه : ” ورأيت صاحبها في بقية المرآه المتسخة وقد حضن سباطة موز أرى بقية من أثرها كل دقيقة ويشعر الطريق ببقية أثرها يطير بعيدا ويتلقفه وجه توكتوك مخالف ”
ثم يخبرنا الكاتب عن تلك الدقائق المعدودات التي مرَّتْ عليه، التي كان يشاهد فيها العرض الحواري العبثي، ما بين سوءات و قبح بعض البشر، و بين تأفف و ضَجَر الطبيعة، و الذي مر كسنوات طوال في عمر الزمن : ” مضت قرابة الربع ساعة وأنا في فجوة زمنية تحسب فيها الدقيقة على الأرض بسنة في أرض الموت و الموز”
ثم ينهي الكاتب قصته بانتهاء رحلته المؤلمة على الطريق، من مكان عمله حتى وصل إلى مكان منزله، بعد أن سعد بعض الشيء بعقاب لا إرادي لمن يخالف و يعبث بجمال الطبيعة.
تحليل لبعض عناصر القصة
_ عَتَبة النص:
جاء عنوان القصة (زحام من النعم .. وأشياء أخرى) جاء في صيغة النَّكرة سواء للنعم الكثيرة التي لم يُعدِّدها الكاتبُ، أو للأشياء الأخرى، التى آثر ألا يذكرها، إما لأنه يستنكر وجودها، ولا يود أن يسلط الضوء عليها، أو لأنه يريد أن يترك للقارئ مُهلة ليُعمل عقله ليكشف ماهية هذه الأشياء الأخرى، فيزداد تشوقا لقراءة القصة، والعنوان وإن كان طويلًا بعض الشيء ألا أنه جاء معبرا عن القصة، فالنعم التي أنعم الله علينا بها كثيرة، لكن بعض تصرفات الحمقى من البشر تظهر لنا سوءات وبذاءات أخرى قد تطغى على بعض النعم.
_ الفكرة:
الفكرة وإن كانت تقليدية، حيث إن القصة من واقع الحياة اليومية، التي نراها كل يوم، إلا أن تناول الكاتب لها بأسلوب شائق و جاذب، بدمج بعض الرمزية في الحكي؛ أدى لتقنية مغايرة تَشي ببراعته الفائقة في سرد الأفكار.
_ اللغة:
اللغة فصيحة، و إن كانت لغة بسيطة و سلسة، غير معقدة، و لم تتضمن مفردات مقعرة، و لم يكن الكاتب متعاليا بها على المتلقي، كما لم تأتِ اللغة مهلهلة أو ركيكة في أي موضع .
_ أسلوب السرد من حيث الراوي للأحداث:
جاء السردُ بأسلوب الراوي من داخل الأحداث بضمير المتكلم، ما أصاب القارئ بالمتعة المنشودة لديه من وراء القراءة.
_ أسلوب السرد من حيث وقوع الأحداث:
سيطر أسلوب السرد التسلسلي على النص، أي السرد حسب زمن وقوع الأحداث، و إن لجأ الكاتبُ في بعض الأوقات إلى أسلوب السرد المتقطع، بالاسترجاع لبعض الأحداث، كالتلويح بعلم التحنيط و المومياوات في الحضارة المصرية القديمة، أو استرجاع ما يحدث على سطح القمر، و كذا القفز على الأحداث أحيانا أخرى، و كل ذلك قد نَجَا المتلقي من الملل عند القراءة.
_ الزمان:
زمن وقوع الأحداث كان في وقتِ ما قبل الغروب، ذاك الذي تتأهب فيه الشمس لأن تركن إلى مَخْدعها البعيد، بعد يوم طويل شاقٍّ، تراقب فيه كل محاسن وقباح البشر.
_ المكان:
مكان وقوع الأحداث كان على الطريق المؤدي من مكان عمل الراوي حتى مكان منزلة، أثناء قيادته لسيارته.
_ الحركة الدرامية والصراع والنهاية:
بدأ الكاتبُ القَصَّ بأسلوب شائق جاذب بلفظ ( آه ) و كأنه يمني القارئ بقصة مؤلمة حزينة، ما جذب المتلقي منذ البداية حتى آخر كلمة، مارًا بأحداث غير قويمة، حتى نهاية الصراع الدائر بين البطل وبين باقي شخصيات القصة، وصولًا لنهاية مُرضية إلى حد ما للقارئ بنيل المخالفين لعقوبات عفوية أو لا إرادية جاءت من مخالفين آخرين .
_ الشخصيات:
تحقيقًا لعنصر ندرة الشخصيات في القصة القصيرة بعكس الرواية؛ كانت الشخصية الرئيسة هي بطل القصة، و بعض الشخصيات الثانوية مثل قائدي التكاتك وقائد السيارة و من معه.
_ نهاية:
استطيع أن أقرر وبحق أنَّ الكاتب استطاع بأسلوبٍ أنيقٍ جاذبٍ رائقٍ، عبر سَردٍ آسرٍ مُكثَّفٍ و مُركَّزٍ، و لُغةٍ رَصينةٍ فَصيحةٍ، أنْ يَدلفَ إلى القلوبِ و الأفئدةِ، ليُمرِّر للمتلقي عدة رسائل، تمثل قناعاته الشَّخصية، داعيا إلى اعتناقِ مباديء الحقِّ و الخيرِ و الجمال، و رفع الظُّلم و دفع الطُّغيان، فيَصُوغُ لنا قصةً عبقة، مُحَمَّلة بالآلام و الأوجاع عبر أبطاله.