بقلم ✍️ د.حنان سالم
( دكتوراه الفلسفة المعاصرة ـ كلية الآداب – جامعة العريش)
في ظل النظام العالمي الجديد بكل ما يفرزه من تطورات وتغيرات متسارعة في جميع المجالات، فإن هذه التطورات تفرض نفسها علي النظام المحلي التربوي في مجال التعليم، باعتبار النظام المحلي جزءاً من النظام العالمي.
ونحن بصدد هذه التحولات والتطورات المتلاحقة، فقد تغير مشهد التعلم والتعليم، ليواكب التغيرات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية الحالية، مما كان له أثر على التربية والتعليم في الوقت الحالي، حيث نجد تربية من نوع خاص، وتعليماً من نوع جديد.
وقد تغير دور المعلم بسبب التغيرات التربوية، التي فرضتها الأزمات الطارئة والتطورات السريعة في ظل ظهور نظريات تربوية جديدة، مثل “نظرية التعلم الذاتي” و”التعلم النشط ” وغيرها، حيث أصبح المتعلم محور العملية التعليمية ولم يعد يعتمد علي الحفظ والتلقين، وأصبح المعلم في عصر الرقمنة ليس المصدر الوحيد للمعرفة، بل أصبح باحثاً، موجهاً، ومرشداً، وميسرا لا مسيطرا علي الموقف التعليمي، مما أسهم في بناء أجيال جديدة معاصرة ،وهذا يعد بداية تعليمية جديدة.
وإيمانا بأن الإستثمار في البشر هو أساس التطور والتقدم في شتي المجالات، وخاصة في مجال التعليم. فإن البداية الجيدة في تصوري لابد أن تنطلق من الإهتمام بالمعلم بتقديره وتطوير ممارساته التربوية سواء بالتدريب أو التأهيل أو اكتشاف مواهبه ومهاراته، فهو الثروة الحقيقية والأساسية للعملية التعليمية.
فهناك الكثير من المعلمين لديهم خبرات واسعة، ومهارات متعددة، تحتاج إلي صقلها وتطويرها، ومنهم من يقوم بالبحث في تطوير ممارساته التعليمية مع طلابه سواء من حيث تطوير استراتيجيات التعلم، أو تعديل سلوكيات الطلاب، أو تطوير علاقاته بالبيئة الداخلية أو الخارجية للمدرسة.
وهذا يتطلب بدوره أن يقوم المعلم بالبحث والتأمل في ذاته ليقف علي أهدافه وأحلامه في تطوير العملية التربوية، والممارسات الفعلية للتعلم، ووضع خطة محددة للكشف عن المشكلات التي تعرقل تحقيق هذه الأهداف، مما يتطلب بحوثا جدية وأفكار متطورة لتنميتها.
ومع تطور الأبحاث التربوية في العصر الحديث، ظهر ما يسمي ” بحوث الفعل Action Research ” الذي نشأ في نهاية القرن التاسع عشر ، حيث تنسب أفكاره إلى عالم النفس الاجتماعـي ( كورت ليفين Kurt livin ) صاحب نظرية” البحوث العملية “، التي طبقت أفكارها علي نطاق واسع في مجال التعليم، والتي تقوم علي معالجة المشكلات الاجتماعية بالجمع بين النظرية والتطبيق الفعلي.
ثم جاء “جون ديوي” أبرز علماء النفس التربوي الذي كان له دور كبير في تطوير بحوث الفعل أو بحوث المعلمين، وطبق الطريقة العلمية في حل مشكلات التعليم، وكان يعتقد أن المعلمين في حاجة لاختبار أفكارهم إجرائياً وهم يقومون بالتدريس، حيث قال: “لا يمكنك التدريس اليوم بنفس الطريقة التي قمت بها بالأمس لإعداد الطلاب للغد” ،إذ أكد علي ضرورة ممارسة الشك المنهجي لدي المعلمين في طريقة تدريسهم، وتأملهم لممارساتهم، من أجل تحسين التدريس.
وهذا النوع من البحوث العلمية الحديثة يختلف عن البحث التربوي التقليدي المألوف، والذي نستطيع أن نحدد ملامح منهجيته البحثية وخطواته بطريقة علمية موضوعية صارمة؛ حيث يقوم به التربويون وفقاً لإطار نظري محدد، يتم تصميمها وإجراؤها وضبط خطواتها بواسطة المعلم نفسه ، أو بالتعاون مع زملاء يشاركونه المشكلة ، أو العمل بما يحقق التنمية المهنية لهم ، بالإضافة إلى ما يستفيده التلاميذ أنفسهم من التحسن في الأداء في بيئة تعليمية فعَّالة .
وعليه سمحت مبادرة “بداية لبناء الإنسان” للمشاركين أو الفئة المستهدفة من إجراء بحوث الفعل بالمدارس لتطوير المعلم والوصول به إلى المعلم الباحث، القادر علي عمل مشروع متكامل لأحد المشكلات في البيئة التعليمية بالمدارس من أجل حلها في ضوء توجهات إجراءات بحوث الفعل.
فما مفهوم بحوث الفعل؟.
Action Research
من خلال العديد من التعريفات حول بحوث الفعل يمكننا تعريف بحث الفعل بأنه منهج بحثي فيه شكل من أشكال التأمل الذاتي يقوم به مشاركون (معلمون، طلاب، مسؤولون،….) في مواقف اجتماعية (من ضمنها التعليمية) من أجل تحسين الممارسات التعليمية واقتراح سبل التغيير.
وقد عرف (David Matsumoto, 2009: 12) بحث الفعل بأنه: “بحث تطبيقي يستخدم أساليب البحث العادية في برامج من العمل الجماعي من أجل إحداث تغيير إيجابي اجتماعي وفهم العمليات التي ينطوي عليها التغيير الاجتماعي.
كما عرفه dewey and lewin – norton ,2009 – goodnough ,2011 بأنها: بحوث تهدف إلي التعرف علي المشكلات بغرض التحسين أو التغيير المؤسسي، ويقوم بها ممارسون أي معلمون أو قادة مدارس، بحيث يتضمن البحث التأمل والتفكر في الممارسات، وقد يؤدي ذلك لتحسين الكفاءة للمعلم وتغيير تفهمهم لهويتهم المهنية .
أما التعريف الإجرائي لبحث الفعل هو بحث ينبع من مشاكل المعلم، فهو الذي يحدد المشكلة في سياقها، وهو الذي يبحثها، ويطرح الحلول والإجراءات لفهمها، مبتدئا بما يحدث في الصف، والخروج بعدها إلى منظور أوسع، كما يقوم بربط المشكلة بالسياق الثقافي الاجتماعي.
وهذا يتطلب تأمل المعلم الباحث المهموم بإيجاد الحل الأمثل للمشكلة، وهنا يعتبر التأمل ركيزة البحث الإجرائي.
ومع تعدد واختلاف تعريفات بحوث الفعل إلا أنها تدور جميعها في فلك البحوث العملية التي أسس لها “ليفين” من قبل ومع كل ذلك فهي تتميز بمصداقية قد تفوق البحوث التجريبية Experimental) Research)؛ لأن بحوث الفعل تتم في بيئات طبيعية غير مفتعلة، وتتماشى مع مستوى تعقيد المشكلات.
ويحدث هذا التعقيد نتيجة لتعدد الخلفيات عند المتعلم (الخبرات الخاصة للتلميذ، التنشئة الاجتماعية، خلفية الأستاذ وخبراته، خلفية الأقران والمحيط الخارجي).
ومن هنا تصبح بحوث الفعل إجراء إصلاح متمركز حول المدرسة، تكون العلاقة فيه من المدرسة وإلي المدرسة تنتهي، بحيث تصبح المشكلة والمجتمع المدرسي والجهات الداعمة في حالة إنصهار وتعاون بين كل الأطراف في البيئة الداخلية للمدرسة، فهي عملية منظمة وممنهجة.
وعليه فما هي خطوات هذا البحث ؟ وكيف يقوم المعلم به ؟ وما الإجراءات التي يتبعها المعلم الباحث لكي يصل إلى النتيجة المتوقعة؟.
تأتي خطوات بحوث الفعل متضمنة خطوات حلزونية ( Spiral ) كما أطلق عليها ليفين، كل خطوة فيها تتكون من حلقة تبدأ بالتخطيط، ثم الفعل، والحصول على الحقائق المترتبة على هذا الفعل.
وتتضح الحلقة الأولية كما يصفها “ليفين” في الخطوات الأساسية المحددة كالآتي:
– نظرية theory
– فرضية مبدئية tentative hypothesis
– النمط pattern
– الملاحظة observation
وتأتي خطواتها كالآتي:
1- تحديد الفكرة العامة أو الأولية.
2- الاستطلاع ( البحث عن الحقائق).
3- التخطيط.
4- اتخاذ الخطوة الأولى للفعل .
6- التقويم.
7- الخطة المعدلة.
8- اتخاذ الخطوة التالية للفعل.
وتتراوح إجراءات عملية بحوث الفعل في مسارها العلمي بين البحث والفعل فلا يمكن أن يسبق أحدهما الآخر، فالدارس يبحث لكى يفعل، ثم يفعل لكي يبحث عن حركية تغييرية متواصلة ومرنة، فليس لها إجراءات معينة أو محددة، ويتم إتباعها وفق ترتيب محدد.
لذلك تعددت وجهات النظر حول تلك الإجراءات، ولكنها اتفقت على الطبيعة الديناميكية للبحوث. وغالبا ما تأتي الإجراءات كما وصفها “كورت” فى شكلها الحلزوني Spiral .
الخطوة الأولي فيها: هى اختبار الفكرة بعناية في ضوء الإمكانات المتاحة، وفى بعض الأحيان يتطلب الأمر إجراء المزيد من البحث عن الحقائق، وإذا ما تحققت المرحلة الأولى من التخطيط بنجاح فسوف ينبثق عنها ما يسمي بخطة عامة، وهي خطة معدلة بالنسبة للفكرة الأساسية.
والخطوة الثانية: تتكون من التخطيط، فالتنفيذ والاستطلاع أو البحث عن الحقائق، بهدف تقويم النتائج التي تم الحصول عليها فى هذه الخطوة، ثم الإعداد للتخطيط للخطوة الثالثة .
وقد طور “ستفين كيميس” S . Kemmis النموذج البسيط ذا الطابع الدورى لعملية بحث الفعل، ليتخذ شكلا حلزونيا تمثل كل دورة أربع خطوات هي : ( الخطة – التنفيذ – الملاحظة – التأمل). لتأتي دورة بحث الفعل كالآتي: ( خطة– تأمل – فعـل – ملاحظة ) دورة أولي
و(خطـة معدلة– تأمل – فعــل – ملاحظة ) دورة ثانية.
وهكذا دورة ثالثة غيرها، حتي يصل إلي الحل المناسب.
ومن ثم يمكن وصف دورة بحوث الفعل بأنه: دوري، مرن ومباشر، تأملي، كيفي، تشاركي. فهو:
١- دورى : على شكل دورات تتكون من التخطيط والتنفيذ والملاحظة والتامل.
٢- مباشر ومرن : واضح وقابل للتعديل.
٣- تأملى : تركيز الباحث على التأمل فى الإجراءات والنتائج.
٤- كيفى : لغوى وذلك لعدم إضاعة الوقت.
٥- تشاركى : أكثر شمولية.
وفي ضوء الواقع يمكن وصف المعلم الباحث بأنه متسائل متأمل ناقد، فينبغي أن يجرى المعلم بحوث الفعل باتباع الخطوات التالية :
– يطرح أسئلة منبثقة من واقع حبه لاستطلاع نتائج عملية تعليم وتعلم تلامذته .
– يراجع الأسئلة ويبحثها مع تلامذته بطريقة منظمة ويوثقها بطريقة دقيقة .
– يجمع المادة الناتجة عن الأسئلة المطروحة ويحللها طبقاً لملاحظاته وتأمله لها.
– يختبر الافتراضات والمعتقدات، ويحاول التفسير من خلال إطار نظري.
– يشترك مع زملائه في النقد والتفسير لما جمعه وانتهى إليه من نتائج .
– يقدم النتائج لغيره من المشاركين والمهتمين بتطوير التعليم .
– يتحدث إلى تلاميذه بشأن النتائج وتفسيراتها.
– يناقش النتائج في قاعة الاجتماعات .
– ينشر النتائج عبر القنوات الممكنة.
– يعاود رحلة البحث في ضوء ما انتهى إليه من أفكار جديدة .
لتصبح أهم مبادئ وإجراءات بحوث الفعل كالآتي:
– النقد التأمليReflexive Critique
– النقد المنطقي Dialectical Critique
– الاستناد إلي مصدر تعاوني Collaborative Critique
– الاعتماد علي المخاطرةRisk
– البنية الجمعية Plural Structure
– الاستناد إلي النظرية والممارسة والتحول
Theory, Practice and Transformation
فالنقد التأملي ” Reflexive Critique” يعكس هذا المبدأ التأمل للقضايا والمشكلات والإجراءات المصاحبة لها ووضع أسس، وافتراضات للأحكام الصادرة، أي الاهتمام بالمرجعية النظرية.
أما النقد المنطقي ” Dialectical Critique”
ويقصد به فهم العلاقة بين الظاهرة وسياقها وكذلك بين العناصر المكونة لظاهرة .
وبناء عليه نحتاج إلي الاستناد إلى مصدر تعاوني ” Collaborative Resource ”
فالمشاركون في مشروع بحث الفعل، هم باحثون مشاركون Co- researcher ويفترض مبدأ التعاون، أن أفكار وأراء كل فرد على نفس القدر من الأهمية، وأنها تشكل موردا أساسيا للتفاوض بين المشاركين. لذلك يوضع في الاعتبار العلاقة بين الآراء الجماعية والفردية .
أما الاعتماد على المخاطر ” Risk”
من المحتمل أن تولد علميات التغير نوعا من المخاوف بين المشاركين كنتاج لهذا التغير، غير أن قيام بحث الفعل على مبدأ المخاطرة، سيؤدى إلى إزالة تلك المخاوف وإحداث تلك التغييرات ، ومهما كانت النتائج ستتم عملية التعلم .
وعليه تتجسد البنية الجمعية ” Plural structure ”
لطبيعة بحث الفعل فى تعدد الآراء، بما يؤدى إلى تعدد الإجراءات الممكنة والتفسيرات، وصولا إلى نص جماعي فى التقرير .
وهذا بدوره يؤدى إلى وجود كثير من الحسابات الواضحة والعلنية، وهى بمثابة دعم لمناقشة مستمرة بين المشاركين وليست استنتاجا نهائيا للحقيقة ،مما يتطلب ضرورة الاستناد إلى النظرية والممارسة والتحول
“Theory, practice and Transformation”
،حيث توفر النظرية فى بحوث الفعل معلومات الممارسة، والممارسة تطبق النظرية من خلال عملية ترجمة مستمرة. مع ملاحظة كل نتيجة تتأكد المعرفة النظرية ،وكلا الأمرين مترابطان من أجل تحقيق عملية التغيير .
فالتغيير والنمو بالنسبة للإنسان يعدان جزءا من تطور حياته والتغيير عندما يكون مستمر بعض الأحيان فإنه يشكل صعوبة، لكنه عنصر مهم للإبقاء على المعلم الكفء . فهو أى التغيير يحدث إذا ما لاحقه عناية إيجابية ودعم ونتائج جديرة بالاهتمام.
لذلك نحتاج إلي بداية جديدة من أجل التغيير والإصلاح وتحسين مهارات المعلم وإكسابه القدرة علي تغيير ذاته المهنية.
وفي تصوري ينبغي لتحقيق كل ماسبق والوصول الي نجاح أي مشروع فكري أو خطة وهدف مصيري في حياتنا لابد من إرادة وتحدي للعوائق والظروف والتحديات المحيطة. فالإرادة هي المحرك الأساسي والدينامو والدافع وراء تحقيق أي عمل فالارادة هي العصا التي نتكأ عليها اذا وقعنا لنرتكز عليها ونكمل المسيرة فيقول المثل “إذا كنت تريد فأنت تستطيع”، وهذا يتطلب بدوره إرادة قوية وعزيمة علي العمل.
عماد الإرادة والقوة هو الإصرار علي العمل بدءا من تحديد الهدف، والسعي للوصول بتحليل العقبات والتحديات، وهذه هي البداية للوقوف من جديد ونفض الغبار عن أهداف ورغبات موجودة تراود أحلامنا بإستمرار أو نهدف لتحقيقها بإصرار موقنين بقوة الإرادة والاجتهاد والعمل وعدم التوقف حين يكون الطريق غير ممهد أمامنا.
فنحن نتطلع لغد ببداية جديدة مشرقة بإذن الله.
/