ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات وإطلالات أدباء ومواهب أرض الكنانة..
وعبر هذه السطور نعرض لرؤية نقدية وقراءة أدبية للكاتبة الأديبة السورية باسمة العوام لكتاب “على مرمى البصر ..رحلة الأراضي الحجازية” في أدب الرحلات للكاتب الأديب إبراهيم الديب والصادرة عن دار النخبة للنشر والتوزيع القاهرة – 2024.
🍂
بقلم ✍️ بسمة العوام ( ناقدة وأديبة)
الرحلة : صنف أدبي يبين أحوال الشعوب وحيواتهم من حيث الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والسياسة والثقافة والحضارة وغيرها ؛ ويعرض معلومات عن ثقافاتهم وأفكارهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، طقوس معيشتهم وأخلاقهم وتأثرهم وتأثيرهم بالآخرين ؛ و ” رحلة الأراضي الحجازية” هي رحلة إلى الحج وليس الحج هدفها الوحيد ، بل تهدف , كذلك ، الى التعلم ولقاء العلماء ومجالستهم والأخذ عنهم ، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية ، إضافة الى زيارة جميع المناطق التي وصل إليها الإسلام ؛ والرحلة ، من ناحية أخرى ، يقوم بها رحالة ضج ليلهم بالأحلام ، ونهارهم بعشق الاستكشاف وفضول المعرفة بأسرار الكون و التزود بجواهر الوجود من خلال نبش الماضي وبناء أجنحة الحاضر والتحليق نحو الغد ، ثم العودة بعيون تضج بالصور ، وعقول تزخر بالجديد ، ومن أقلامهم تتناثر بلابل وأوراق وأوتار ، تتبرعم – عند كل منعطف – فكرة تضيء ركنا و تفتح للضياء نافذة تكشف الأسرار والآثار .
— نتوقف في هذه المحطة مع رحلة قام بها الكاتب المصري ” إبراهيم الديب” إلى الديار المقدسة ، قاصدا تأدية مناسك الحج ؛ وقد دوّن أحداث رحلته في هذا الكتاب تحت عنوان ” على مرمى البصر” – رحلة إلى الأراضي الحجازية ” ، وقدمه هدية لابنه ” إسلام ” :
الإهداء ..
” إلى إسلام … ابني ” .
— يبدأ الكاتب كتابه بكلمة أولى عن أدب الرحلات الذي كتب فيه مقالات عدة منها ” على مرمى البصر ” الذي اختاره عنوان كتابه هذا ؛ ثم ينطلق بنا في رحلته التي تبدأ من دمياط في مصر ، وكيف اجتاز أرضها وصحراءها نحو الأراضي المقدسة ؛ نتوقف معه في كل محطة – من ميناء العقبة الى المدينة ، ثم مكة المكرمة و أم القرى وكل ركن زاره في الديار المقدسة ، ليعود بنا في رحلة عودته من مكة الى ” حالة عمار ، منفذ السعودية الحدودي باتجاه الأردن , ثم من العقبة الى دمياط .
__ وبالطريقة التي غزل بها ” إبراهيم الديب” وبر المسافات ، دس لنا ، بين سطوره ، صورا وأخبارا وحكايات تروي ما حمله في حقائبه النفسية والفكرية الماضية والحاضرة ، فيقول :
**ص14…..
” لا يستطيع المرء حينها النفاذ لأسرار هذه الحياة أو الوقوف على بعضها إلا إذا قرن التجربة المعاشة بالمعرفة الذهبية ، وهنا ما كابدته خلال تأديتي للخدمة العسكرية بسيناء ”
وعن السفر وتأثيره في حياة المرء يقول ، مستشهدا بأسماء لمفكرين وفلاسفة :
**ص23….
“يمثل السفر هنا حياة ثرية خصبة في أحداثها مفعمة بمشاعرها ، حياة مختلفة يخرج فيها المرء من نفسه وماضيه لبعض الوقت ……” ، ” السفر ارتحال في المكان ، والنفوس والأفكار “.
**ص30…..
“هذه الصفات التي اكتسبها ، وهبتها إياه الصحراء بعد تنازل كل منهما للآخر عن بعض صفاته في اتفاق شبه صامت ، ما ظل على عهده بها ولم يستحب لمغريات المدينة ، فثمة علاقة وثيقة بين المكان وتأثيره على من يتوحد معه لفترة طويلة ، تحدث عنها باستفاضة من أكثر من زاوية ، أكثر من مفكر وفيلسوف ،أشهرهم ” جاستون باشلار” و ” جورج ماتوريه” و ” ميرلو بونتي ” ……”.
— لم يتوقف الكاتب عند وصف الأمكنة ،مثلا : ( مقابر الصحابة الذين استشهدوا في غزوة بدر ) ، أو عند وصف التسوق ص79 ، أو الحديث عن الأديان والأمم السابقة ص70 ، وعن الطرق التي عبرها والطبيعة ومتغيراتها التي واجهها ، بل أيضا توقف عند كل الشخصيات التي التقاها والتجارب التي مر بها كتجربته الروحية خلال لقائه بالشيخ “الحذيفي ” خليفة الشيخ ” محمود الحصري ” ، الهندي الذي يعمل في المطعم ، طبيب المنصورة ، ابراهيم القادم من بنجلادش ، العم أحمد وغيرهم ؛ كذلك وصف لباسه وتحركاته وانطباعاته عما يحيط به ، ودوما يستحضر الماضي ليقارن ما آل إليه في الحاضر ومشاعره وانفعالاته مع كل هذا ، فيقول :
**ص54…..
“…. فلم أعتد ارتداءالجلباب ولكني اعتبرتها فرصة أثناء العمرة للخروج من كل ما كنت أمارسه من طقوس في حياتي السابقة ، وأن أفك نفسي من كل قيد اجتماعي ، وبصورة بسيطة وعفوية تلقائية ، حياة يتسلل جزء من الفوضى بها ، يعادل الاستخفاف واللامبالاة الذي أشعر به في مثل هذه الأوقات وأخرج من سجن التقاليد الاجتماعية ……”.
__ مجددا ، إن هذه السردية ” على مرمى البصر” ليست مجرد حكاية رحلة قام بها الكاتب ، أو تعريفا بالمكان المقصود إليه ، او وصفا لتفاصيل وأحداث شخصية مر بها ، بل هي وثيقة تاريخية وفكرية وثقافية تصبغ ورقات الزمن لتكون دليلا وزادا لكل من يريد عبور ذاك الطريق واختبار تلك الرحلة ؛ قدمها ” إبراهيم الديب” بأسلوب السرد المفصل ، مستخدما لغة الوصف البسيطة والألفاظ والتراكيب التي تتناسب مع الشخصيات و تواكب الأحداث وتعكس الواقع والمحيط ؛ وهي تنطوي تحت مايسمى ” أدب الرحلات ” من حيث ما قدمته من معلومات وأفكار عن شعوب وحضارات وثقافات مختلفة ؛ ورغم كل ما وصلنا إليه من سهولة الوصول الى المعارف والمعلومات من خلال عالم الإنترنت والفضاء الالكتروني ، نبقى بحاجة للمعلومة الشخصية الموثقة بالتجربة الذاتية والواقعية التي ترتدي عباءة الشعور الإنساني وإنطباعاته وتفاعلاته مع الواقع.