ويتجدد اللقاء مع إبداعات ومواهب أبناء المحروسة..وفي هذه السطور ننشر “أسمالُ الخَواء”, للأديب القاص أحمد فاروق بيضون..
وهي إطلالة قصصية نوعية ومبدعة رسمها من وحي شجون الحياة في ثياب القصة القصيرة.
🍂
أسمالُ الخَواء
هذه قصّتي وأنا لا أدري حتى الآن هل أمتُّ بصلةٍ لموئل الواقع بهذي الحياة أمْ أنا في عالم آخر مُصغر من الآخرة، تتردد في الأذهان المقولة الشكسبيرية بأن الجحيم شاغراً وكل الأبالسة يسكنون مرابض الأرض؛ هل كان يقصد بأن الشر قد استشرى قيظه على وجه البسيطة؟!..
هكذا، كنت أغالطُ نفسي بأن أتفرّس كلُّ خيرٍ في الشخوص التي أقابلها لأكسر لوح الجمود وكرة الثلج فيما بيننا بأن ترتسم ابتسامة على ثغري هاشاً باشاً حتى وإن اعتراني لواعج الأحزان، أرتاد مكتب عملي كل يومٍ بانفراجة أسارير غير مبررة كنوع من التفاؤل ببزوغ شمس يوم جديد – على الرغم من المشكلات التي تقع على كاهلي .. إلاّ أنني أفترش لها دناناً للنسيان بل ألقي بها في سلة المهملات لأني أعلم تماماً بأنّ كلُّ شيء على مايرام ولا أحد يكترث لأمري، ثبتُّ على حائطي عبارة: (الدّنيا فانية)..
لا أعرف هل هناك من يمترون ويظنون بي سوءة حيال تلك الوريقة المُعلقة أمْ ستكون عبرة لمن يعتبر؛ هو كونٌ مصغر لما يحدث في العالم بالخارج من موبقات وأرزاء للقدر، دوماً اسمعها على لسان كل قريب وبخاصةٍ تلك التي يربطني بها عروة لا تنفصم: ( الدنيا حظوظ)، كنت صموتاً شاكراً لأنعمي ولا ألقي بالاً بأن هناك من يترصّد لك في شئون حياتك بل يغبطك على شخصك الخلوق المتفاني، بلْ قد يكون جلّ همه أن يراك تأسى على شفير الهاوية أو الحيد عن جادة الصواب، ذاك المقصود لم يكن فذاً واحداً بل سربٌ من هراء يعبث في افكار المحيطين لكونهم من ذوي النفوذ، الذين يتلذذون التباهي بأن لديهم مرؤوسين تحت إمرتهم يولنهم السمع والطاعة والمداهنة، لكنّى على النقيض تتغشّاني شآبيب من الرحمات بأني لستُ من هؤلاء النفير، في أيام العطلات الرسمية لأجد ذاك النرجسيّ يهاتفني بادعاء الاطمئنان عليّ ولكنه يُلغمط في إجاباته وتأويلاته بفحوى الرسالة التي يبعثها إياي، كما جرت عليه العادة بأني لا أرفض طلباً لمن سألني بل أحاول تقريب وجهات النظر، بيد أني تفرّست بأنه يكتنز معلومات عن الجميع كمُحقق ضليع يحصر الأدلة لمحاولة الإيقاع بالمُجرم – هذا الجاني هو..أنا!…لا غروَ بأنه كان الأفضل بيننا على الإطلاق متشحاً بمئزر التواد والتراحم وبأنه لا يخشى في الحق لومة لائم، وأخر من تلك الثلة ينقل الأخبار كما أطلقت عليه “الكناريا” لينال حظوة عند المدراء ومن يعتلي المناصب والمطارح، على الرّغم من أنه لا يفقه شيئاً عن مجريات الأمور إلا النذر اليسير الذي ينقذ يوم دوامه، واغُربتاه في تلك الأيام العجاف التي نرى فيها من يلفلفون الموضوعات ومن تربدُّ وجوههم بأنهم المثاليون وأهل الثقة! وأنا أدَوزن أوتار الصمت!
دوماً ما كنتُ أقفُ أمام مرآتي وأنا أقول: (الدنيا دوّارة.. داين تُدان.. طفح الكيل.. أنت لست إلهاً كي تصلح ما فسد من ضمائر!).. لا أدري ما أرمي إليه من تلك المناجاة، سرعان ما أطرقتُ حزيناً وأذيال الخيبة تكتنفني بين ظلال باهتة بعدما صرتُ مُشوهاً، شخصٌ ما كنت أركن إليه لأستقي رأيه وأشوره في بواطن الأمور لما قادني حدسي أن استلهم صوت الحق الأبلج بداخله، بالطبع – كنت ألوس حلاوة الفضفضة وافياء الصداقة والوئام مع أحدهم، ممن لمستُ بأنه يشبهني ولا ينتمي لقريتهم السوداء، لم أفكر أبداً أن أتجذر لأصبح مقربا من أصحاب الطيلسان من أولي الأمر، بتُّ على يقينٍ تام بأن دوام الحال من المحال بمنأى عن ملالة وغُصة الانصياع لسياطين التعليمات.
حينذا – جلسنا سوياً في اجتماع غير مسبوق ليدلو كلّ بدلوِه عن خطة العمل الجديدة هذا العام، وأنا أراقب تلك البسمة العابرة للذي اتخذ الحيف شعاره ليصنع لنفسه من يناصره، لا يمكن أن يكون أحدهم على الحياد فإما أن يكون معهم على الحلوة والمرة أو من الأعداء التي تعشق الوغى وإثارة الشغب كما يلفقونها له، الجميع كان يظنُّ بأني أضع أنموذجاً للدعايا عن الشركة لأنافسهم في العرض الإعلاني القادم الذي سيرسم قطار المشتريات والسياحة هذا العام، كلماتي موسومة بلعنة التكميم ويزمها وعاء الصمت لأني أعلم بأن رأيي سيكون بلا أهمية لعلمهم بأني مأفول لا أفقه الكثير عن الطفرة الحديثة والموجة السائدة، كانت الجائزة تنتظر صاحب “الموديول” المثالي للعام، هاجسٌ ما في جعبتي يخبرني بأن هذه الرؤوس الفارغة التافهة تعشق تنفس الصعداء في رحلات مكوكية بالفضاء والفراغ الذي يحيطنا ويعبئ عروقهم، ذاك الطائر الذي يزرع بذور الفتنة والآخر (شارلوك هولمز) فازا معاً بجائزة مالية طائلة للعام البائد لمشروعهم الجهنّمي الذي ينافس المصارف باختراع ماكنية صرف آلي للعملات الصعبة، وهو الأمر الذي حقق فشلاً ذريعاً بعدما تم إهدار النفقات وتحاشى العملاء أي معاملات بتلك الشاكلة، كأن سماواتهم قاب قوسين أو أدنى أن تُمطر ذهباً أو فضة، ولم يورثوا غير إرث كلالة بل خسارة فادحة أرغمت المؤسسة على التخلي عن عمال وقطع عيشهم والإعتماد على هؤلاء بلا استبصار أو استقصاء أو محاسبة.
صديقي الذي يمتشق هامه بكرامة ويصدح في سماء الإبداع كان لديه رأياً آخراً بعد إشراكي بنموذجه الذي يلائم الوضع الراهن، كان الجميع يدرك بأن الدعم الخارجي للأموال لن تقوم له قيامة حتى ننجو من كوة الخسارة ونفق الإفلاس، وإلا.. فالهلاك!… فكرتُه نابعة مما رآه أمام أم عينيه .. بالونات تتوسد مقاعد القاعة ويتفاخرون بألوانهم الزاهية التي لا تنطفئ ..
كلٍّ حسب لونه المفضل، إذن فالخيار الخُزعبلي ليرتشفون الحياة هو صناعة مناطيد باسمائهم وتقوم برحلات جوية في شتى الأنحاء لتقل السائحين في نقلة غير مسبوقة لإنتاج الشركة والتمهيد لموسم مميز، كانت الفكرة عبقرية وأذهلت الجميع واستنمَ لها العضو المالي الممول الرئيس لهذه الحملة، واختار كل طاووس ريشه الذي سيطير به ليجوب المواقع، أما عن كلانا فقد آثرنا مقاعد المشاهدين لنتابع عن كثب تلك البالونات العظيمة في السماوات مع الألعاب النارية في موسم الافتتاح.
هائنذا أخبركم بأنه كان يوماً حافلاً مترعاً بأحلام الزائرين – لكن ما حدث يندى له الجبين؛ صواعق وبرق وريح عرمرم تأتي من حيث لا ندري، وتتقاطر وتتهافت على المناطيد التي يعلوها كل طاقم المسئولين والأصدقاء المُصطفين الأخيار… ونحن كنا من الناجين الأشرار!…
لم نشمَت فيهم على وجه الإطلاق بل حاولنا بشق الأنفس إسعاف من هوى صريعاً على الأرض، هي نوازل من ربّ السماء تمجل بنذير للبشر وتجوس في غياهب الضمائر التي شيعها من خانه كبريائه في عرنوس الهيمنة، جال من جال في فرادس الدنيا، وكبا من استنّ قوانين ملذاته، فليس هناك أبجدية تتنبأ بمعاول الدهر على حين غِرة.
تفضّلوا يا سيّدي الذي اعتلى منبر المحاضرة وسألنا بإبداء الرأي بقبول ملاحظتي من نثر مُغمد أقلامي ردّاً على هجومكم التعسفي الغير مبرر عليّ وصُويحبي الماثل بجواري وإهانتكم لنا؛ بأننا لا نستحق أن نكون طلابك وبأن الإخفاقات ستكون حليفنا بعيداً عن طيلسان الفلاح الناجع.. لأننا صفحة بيضاء برؤوس فارغة وأصنام من جمود لا تفقه ولا تشعر ولا تدرك؛ سيدي.. حنانيك!.. تعددت اللاءات وبقى الخواء.. فهل أنت جديرٌ بأن تملأه وأيُّ النماذج ترانا بخلاف هؤلاء المنافقين؟!..
🍂