بقلم ✍️ د.خلود محمود
(مدرس الإعلام الرقمي بالمعهد العالي للدراسات الأدبية بكينج مريوط والمحاضر الزائر لليونسكو)
قديماً كانت ثقافة الفرد ذاتية نابعة من البحث والتعلم والتجربة والاحتكاكات والتعاملات الخارجية والداخلية بالأفراد في مجتمعه أو خارجه ، ولكن مع طغيان العصر الرقمي أصبح الفرد يستقي معارفه وثقافته ووعيه الكامل في بعض الأحيان من العالم الافتراضي “الانترنت” وخاصة ‘السوشيال ميديا” التي هي بالأصل ليست وسيلة آمنة لذلك فهي وسيلة تواصل مجتمعي فيما بين الأفراد ترفيهيه في بعض الأحيان أما واقع استخدامها اعلاميا ومعرفياً فقد فرضه الجمهور بحكم تواجدهم الدائم علي تلك المنصات التي من خلالها يدس السم السياسي والفكري.
وتدور عملية صناعة التضليل الإعلامي وهي أخطر قطاع صناعي على الإطلاق، لأنها تتعلق بكافة عناصر الواقع الذي نعيشه، وتزييف هذا الواقع، وإعادة صناعته بمؤثرات الجهة التي تقف خلفه، من خلال تضخيم التفاصيل التافهة والتقليل من شأن كل ما هو مهم وفاعل، في سياقات تربك عقل المتلقي، وتفصله عن واقعه البغيض الذي عادة ما يكون سببا في حراك جماهيري مثلاً أو سببا في احتجاجات ومطالبات حقوقية أو سياسية.. إنها عملية لعب جماعي بالعقول وتزييف وعيها.
لم تستثن حمى الإعلام وصناعة التضليل حتى المثقفين الذين وظفهم الإعلام ليستخدموا مقدراتهم المعرفية كسلعة تجارية خاضعة لمقتضيات السوق الإعلامي من عرض وطلب فهم جاهزون لأي تسويق إعلامي يقوم بتبيض وتجميل جهة ما، أو تشويه وتقبيح جهة أخري وهنا يتحول المثقف من صانع للأفكار والتنوير، إلى صانع أيديولوجيا تقوم على خلط الأوراق وإرباك المتلقي باستخدام خطاب تبريري لا تحليلي.
إن العملية الإعلامية أساسها ثلاث مراحل تصل بها الرسالة إلي الجمهور الأولي هي المرحلة التمهيدية التي يمهد فيها الاعلام الحدث للجمهور ببعض المعلومات ثم ينتقل إلي المرحلة الثانية وهي مرحلة التفسير وعرض وجهات النظر والاسباب والآفاق والآراء التي تؤدي بالجماهير للمرحلة الثالثة وهي تكوين وجهة نظر واعتناق فكر معين ، الا أن حاليا تنحصر كل تلك المراحل في مرحلة واحده وهي الثانيه من تفسيرات علي أهواء وإمداده بالمعلومات عن الحدث بصورة متتابعة ومكثفة وغير محايدة ،علي أثارها يتبني الجمهور مواقف غير منصفة وعن غير تفكير لأن الحدث أو الخبر انساق إليه في إطار معين حجب عنه التفكير السليم.
دعني أوضح لك أولاً ماهي الأطر الأعلامية عندما يقع حادث معين فالحدث قد لا تكون له دلالة كبرى عند الناس إلا إذا وضعته وسائل الإعلام في إطار إعلامي من حيث اللغة والصياغة والتركيز على عنصر معين ،حتى يصبح مهما في قلب الإطار الاجتماعي كله.
والأطر الإعلامية هي محاولة تشابه بين ما يدركه الناس في حياتهم اليومية وبين بناء الرسائل وتشكيلها كما تفعل الوسائل الإعلامية؛ بمعنى أن الوسيلة الإعلامية لا تهدف إلى التغيير أو بناء قيم جديدة ولكنها تهدف أكثر إلى الاستفادة من الفهم العام الموجود ، فيدخل الخبر أو الحدث في اطار الاهتمامات الانسانية مثلا ..”مأكل مشرب، أمان”، فيهتم هنا أفراد المجتمع به بل ويصدقونه أو اطار المشاعر وهنا تلعب الوسائل الاعلامية الرقمية والتقليدية علي عواطف الجمهور بتأثيرات سمعية وبصرية فيمنع العقل من التفكير والحكم المنطقي علي الحدث أيضا ويتبني وجهه النظر بل ويؤيدها وهو في اعتقاده أن شئ لم يؤثر عليه وتجد المجتمع بأكمله إلا من عنده من الوعي القدر الكافي للتميز فيكون في اتجاه مختلف فيسير المجتمع في خطي ثقافية ومعرفيه ووعي منساق ومستمد من تلك الوسائل..
وهنا لا نعترض علي هذا التعرض لانه أصبح واقعاً لكن لابد أن نعيد صياغه معرفتنا وثقافتنا عن العالم من حولنا وندرك أن الواقع الافتراضي هو جزء وليس كل حياتنا وأن علينا مسئولية كبيرة في ظل عصر تدفق المعلومات الذي نعيشه وهي عملية البحث فيما وراء ما يصلنا فكل شئ يصل إلينا هو بسبب ولابد من أن نحكم بالمنطق عليه قبل تصديقنا له أو تبني أو تأييد أو رفض تلك المعتقدات والأفكار التي تتحول في عقولنا إلي ثقافة تترجم إلي سلوكيات نمارسها في تعاملتنا وحياتنا.