بقلم وعدسة: زياد جيوسي
“الحلقة الأولى”
منذ عودتي للوطن كانت زيارة مدينة الخليل حلما يراودني، فالحلم كان يجول بين القدس وبيت لحم والخليل ودوما كان الحلم هو البداية ليتحول الحلم إلى واقع، ففكرة أن تعانق روحي مدينة الخليل بعد اشتياق طويل، ليس بالمسألة التي تمر كنسمة عابرة في الروح، فالخليل تسكنني منذ بداية ما احتفظت به الذاكرة الأولى في طفولتي المبكرة في تلك المدينة الجميلة في جنوب الأردن.. الكرك، وحين عبرت الخليل أكثر من مرة بمرور عابر، كانت روحي وقلبي تحلقان نحو البلدة القديمة ونحو الحرم الإبراهيمي فيتجدد الحلم.
حين زرت الخليل متفرغا للتجوال فيها تلبية لرغبة دارا تلك الشابة الصغيرة من عنبتا برفقة والدتها سوسن نجيب الناشطة في محافظة طولكرم في المجال الثقافي والإجتماعي، كانت روحي تسبقني لهناك، فاتصلت مع الأصدقاء الدكتور خالد سدر وكان مدير صحة الخليل في تلك الفترة، ومع زوجته السيدة وصال حمدان لترتيب جولتنا في تراث الخليل وحكايات التاريخ فيها والجمال، فكان اللقاء في مدخل المدينة وللمصادفة عند مكتبة تحفل رفوفها بكل ما تحلم به الروح من كتب، ومن هناك اتجهنا للبلدة القديمة وما أن اطللنا عليها حتى بدأت روحي تستمع لهمسات الأجداد ترويها الأزقة والدروب والحجارة، فكل حجر يروي حكاية من حكايات الخليل، ومجمل الحكايات تشكل رواية من روايات الوطن التي تروي ملحمة التشبث بالأرض والوطن، منذ ضرب كنعان أول ضربة معول في الأرض الفلسطينية من أكثر من عشرة ألآف وخمسمائة عام في مدينة أريحا، فأوقفنا المركبة في موقف قريب من ميدان محمود عباس الذي أفتتح عام 2012 لنواصل المسيرة على الأقدام، وقبل أن ندخل البلدة القديمة المسقوفة كنا نمر من بين عربات باعة الخضار والفواكه، وكانت الأبنية التراثية تشدني بقوة، فلا أتوقف عن التأمل والتصوير، فالمباني بغالبيتها مباني تراثية تروي حكايات وحكايات، مبنية بالحجر وبغالبيتها ذات نوافذ مستطيلة قوسية من الأعلى مع نقوش جميلة، وبعضها مغطى بالقرميد الأحمر.
بدأت جولتنا بالأسواق وأولها سوق القصبة الذي ينتهي بقنطرة خزق الفار والتي حملت هذا الاسم لضيق ممرها، وسوق القصبة هو واجهة الخليل القديمة، لنجول اسواق مختلفة مثل سوق الحصرية الذي اشتهر بصناعة وبيع الحصر المصنوعة من القش أو النخيل إضافة للبسط المصنوعة من شعر ووبر الحيوانات، ثم سوق اللحامين وهذه أسواق تعتبر امتداد طبيعي لسوق القصبة في طريق الحرم، ومررنا بسوق الزياتين الذي اختص ببيع الزيوت وخاصة زيوت السمسم التي اشتهرت بها معاصر الخليل وزيت الزيتون، اضافة لأطراف سوق اللبن الذي اختص بالألبان، وسوق الغزل الذي كانت تغزل وتباع فيه بيوت الشعر، إضافة للبسط المصنوعة من شعر ووبر الحيوانات، فتجولت في الأسواق في هذا العبق التراثي مثل سوق الاسكافية نسبة لمهنة الاسكافي المختصة بصناعة الأحذية، وما زالت الأحذية المصنوعة بالخليل تمتاز بقوتها وجلودها وجمالها في حارة العقابة، وسوق الخضار في حارة المحتسبية وسوق القزازين والمغاربة، وهذه الأسواق تعاني من الركود الاقتصادي بسبب الحصار وإجراءات الإغلاق التي يمارسها الاحتلال على تلك المنطقة القريبة من المسجد الابراهيمي، إضافة لهجمات رعاع المستوطنين للتضييق على سكان البلدة ودفعهم للرحيل، ولكن شعار أهل البلدة القديمة: نموت واقفين ولن نرحل، فالاستيطان يحيط بالخليل من كل الجوانب والحواجز الاحتلالية على كل مداخلها تمارس كل صنوف القمع والاضطهاد للمواطنين، إضافة للضرائب بدون خدمات، فاقتصاد الخليل يؤرق الاحتلال ولذا يعملون على تدميره لإفقاد السكان مصادر رزقهم ودفعهم للرحيل وإفراغ المدينة من سكانها، وهذه الممارسات لعبت دورا كبيرا في تغيير ملامح الخليل التراثية، فاعتداءات الرعاع من المستوطنين لا تتوقف بحماية الجيش الاسرائيلي المحتل، اضافة للسيطرة على معظم الأسواق التاريخية في الخليل وهدم أجزاء منها وتدمير معالمها التاريخية، والسيطرة على المنازل وأسطحها وتسليمها للمستوطنين، إضافة لنصب الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة ونشر النقاط العسكرية وخاصة في المسجد الابراهيمي.
ومن خلال هذه الممارسات الاحتلالية جرى خنق السياحة للخليل والتي كانت تعتمد عليها الصناعات التقليدية، فالخليل تشتهر بالعديد من الصناعات والتي يعتبر السياح والزوار من أهم من يسعون لاقتنائها، فالصناعات التقليدية والتراثية لها مكانة خاصة في فلسطين من جانب تراثي مرتبط بتاريخ شعبنا عبر تاريخه، اضافة لما توفره هذه الصناعات من دخل إقتصادي لأصحابها وباعتها، فكانت تشكل مصدر حقيقي لتنمية الدخل الوطني، فوجود المراكز الدينية فيها جعلها قبلة للحجاج والزوار ارتبطت هذه الصناعات بقطاع السياحة، ولذا عمل الاحتلال على خنق هذا القطاع للقضاء على هذه الصناعات وتدمير الاقتصاد لدفع المواطنين للهجرة، وهذا ما لجأ له الاحتلال تدريجيا منذ الاحتلال عام 1967 من خلال الإغلاقات المستمرة والضرائب والتضييق على التصدير والتسويق، لتدمير هذه الصناعات ونشر البطالة بين السكان، وهذه الصناعات التقليدية متعددة ومنها الصناعات الحرفية التقليدية مثل الزجاج والخزف اليدوي والفخار والتطريز اليدوي والسجاد اليدوي والبسط التراثية والخيزران والصدف ومنتجات خشب الزيتون ومنتوجات القش والشمع والفسيفساء وغيرها.
ولعل صناعة الزجاج تعتبر من أهم سمات الخليل عبر التاريخ، فقد عرفت الخليل أربعة مصانع توارث العاملون فيها المهنة وأسرارها أب عن جد، وهي مهنة شاقة بحكم الوقوف أمام أفران حرق الزجاج المرتفعة الحرارة، وهي تحتاج الى روح فنية مبدعة لصناعة أشكال فنية من الزجاج، وكان لها أسواق كبيرة في اوروبا والبلدان العربية وخاصة الأردن والعمق الفلسطيني المحتل عام 1948، يليها صناعة الخزف التي تعود إلى أكثر من 400 عام حين أدخلها الأتراك بفترة الخلافة العثمانية، فارتبطت هذه الصناعة بالخليل بشكل خاص حيث بلغت المصانع للخزف في الخليل إلى أكثر من 30 مصنع قبل انتفاضة الأقصى، ولكنها انخفضت بسبب الظروف إلى اقل من النصف، علما انها كانت تصدر المنتوجات لأنحاء العالم، ويليها صناعات خشب الزيتون التقليدية والتي تعود الى القرن السادس عشر بدأت بصناعة المسابح للتسبيح من الخرز وبذور الزيتون، وقد دخلت الى الخليل وفلسطين مع البعثات التبشيرية والدينية وتطور كثيرا بصناعة اللوحات والرموز الدينية والقطع التراثية.
وهذه الأسواق لم تعد متخصصة كما الماضي، فالصناعات الصينية والمستوردة غزتها مما أثر على الصناعات التقليدية التي اشتهرت بها الخليل وخاصة الصناعات الجلدية وصناعة الأحذية، ومن طبيعة تصميم هذه الأسواق في الخليل أنها تمتد على مسافات وهي طولية التصميم والمحلات تصطف على جوانبها، وأرضياتها مبلطة بالحجر مع وجود أقنية بالوسط لتصريف مياه الأمطار، وكون الخليل عبر تاريخها مركز تجاري مهم متميز اضافة لكونها مركز صناعي للكثير من المنتجات مثل الجلود والألبان والزجاج والمنتوجات المغزولة ومنتجات الأعناب، فكان لزاما نشوء الخانات التي كانت تستقبل التجار والمسافرين فيها ومنها خانات مثل خان الخليل وخان الوكالة وخان الدويك وخان شاهين، ونلاحظ أن اسم خان الوكالة موجود بالعديد من المدن الفلسطينية ومنها نابلس، إضافة لانتشاره في بلاد الشام في سوريا وفي لبنان أيضا، وكان دوما خان الوكالة أينما وجد هو الأكثر استقبالا للتجار وعقد الصفقات التجارية فيه، بينما نلاحظ ان اسمين للخانات في الخليل تحمل اسم عائلات من المدينة.
خان الوكالة من أقدم خانات الخليل ويعود تاريخه إلى أكثر من 400 عام، وهم يعتبر من أهم مواقع البلدة القديمة في الخليل ويحتوي 20 غرفة مبيت، وكان ينزل به التجار والمسافرون والزوار والرحالة وقد أقام الاحتلال مستوطنة فوقه وفوق البيوت المجاورة واحتل الأسطح، في أبشع الاشكال الاحتلالية، وقد حاولت مؤسسة اعمار الخليل ترميمه وترميم الحي بلا جدوى فقد منع الاحتلال ذلك، فوقوع أجزاء كبيرة من الخليل والبلدة القديمة تحت سيطرة الاحتلال بحكم اتفاقيات اوسلو سيئة الصيت وما تلاها من تقسيم للخليل لمناطق H1 و H2، والمنطقة الثانية تضع البلدة القديمة وتل الرميدة تحت سيطرة الاحتلال بالكامل، بعد جريمة السفاح المستوطن “باروخ غولدشتاين” بالدخول الى داخل المسجد الابراهيمي أمام عيون جنود الاحتلال بسلاحه، وأطلق النار على المصلين لصلاة الفجر فاستشهد منهم 29 مواطنا يقفون بين يدي الله في صلاة الفجر قبل ان يتمكن باقي المصلين من قتله، والاحتلال يهدف لتهجير سكان البلدة القديمة والسيطرة عليها بالكامل والسيطرة الكاملة على المسجد الابراهيمي، لذا يعمل على انشاء مستوطنة في منطقة الحسبة حيث وضع “كرفانات” للمستوطنين، واعتلى المستوطنون الأسطح بوقاحة لا مثيل لها وسكنوها وأغلقوا المجال أمام ملاكها وسكانها من أهل الخليل، كما قام الاحتلال بإغلاق مناطق شارع الشهداء والشلالة بالكامل، وأغلق المحلات التجارية فيه والتي تزيد عن 500 محل معرضة للمصادرة والهدم، وإغلاق أسواق عديدة مثل سوق اللبن وسوق القفاصين وسوق الطيور والذي كان معروفا بإسم زقاق أبو دحدح والآن مسيطر عليه بالكامل من الاحتلال والمستوطنين وسوق القفاصين، إضافة لمستوطنة تل الرميدة والمراكز الاستطيانية في منطقة مدرسة أسامة بن منقذ والسيطرة على سوق الخضار “الحسبة” لانشاء مستوطنة تسيطر على المسجد الابراهيمي، مضافا لذلك التجمع الاستيطاني في كريات أربع والذي يضم غلاة المستوطنين على الحدود الشرقية للمدينة.
الألم لا يتوقف أمام ما تعانيه الخليل وأهلها، والفرح بتحق الحلم ينثر فرحا من نوع آخر، والخليل لا تكفيها جولة وتحتاج جولات عديدة، وفي الحلقة القادمة نواصل تجوالنا في رحاب خليل الرحمن وتراثها وتاريخها.
“جيوس 25/10/2021”