بقلم ✍️ د.علاء الديب
( مدرس الإعلام بكلية الإعلام جامعة الأزهر)
من نافلةِ القولِ اليومَ ونحنُ في عصرِ الذكاءِ الاصطناعيِّ وعوالمِ الميتافيرس أن نؤكِّدَ على أهميَّةِ الإعلامِ الرَّقميِّ بأشكالِه وصورِه كافةٍ، هذا الإعلامُ الذي استطاعَ وبجدارةٍ أن ينافسَ الإعلامَ التقليديَّ، حتَّى أنَّه تمكَّنَ أن يحِلَّ محلَّه لدى عديدٍ من المستخدمينَ الذينَ وجدوا في الإعلامِ الجديدِ خصائصَ وسماتٍ لا يمكنُ توافرُها في الإعلامِ القديمِ والتي من بينِها قِلَّةُ التكلفةِ، السهولةُ والمرونةُ، التفاعليَّةُ، التحديثُ المستمرُّ، المتابعةُ الآنيَّةُ للأحداثِ، اللاتزامنيَّةُ واللامكانيَّةُ، فضلًا عن حريَّةُ الوصولِ والحصولِ على المعلوماتِ مع تنوعِ مصادرِها.
ويُطْلَقُ على الإعلامِ الرَّقميِّ مصطلحاتٌ منها: الإعلام ُ الجديدُ، الإعلامُ الإليكترونيُّ، الإعلامُ متعددُ الوسائطِ، الإعلامُ التفاعليُّ، الإعلامُ الفوريُّ أو (المباشرُ)، وتشيرُ كُلُّ المصطلحاتُ السابقةُ بشكلٍ أساسٍ إلى المحتوى الإعلاميِّ الذي يتمُّ إنتاجُه ونشرُه عبرَ شبكةِ الإنترنت من خلالِ الأجهزةِ والتقنيَّاتِ الإليكترونيَّةِ، متَّخذًا صورًا وأشكالًا متعددةً من بينِها: الصحفُ الإليكترونيَّةُ، المواقعُ الإخباريَّةُ، شبكاتُ التواصلِ الاجتماعيُّ، المدوناتُ الإليكترونيَّةُ، منصاتُ الصوتِ الرَّقميِّ ومنصاتُ الفيديو الرَّقميِّ، وما قد يستجدُّ من أشكالٍ وصورٍ.
ومع كُلِّ الإيجابيَّاتِ سالفةِ الذكرِ للإعلامِ الرَّقميِّ، إلَّا أنَّ كثيرًا من الجِلساتِ العلميَّةِ وورشِ العملِ والأبحاثِ والدراساتِ العلميَّةِ المتخصصةِ في الإعلامِ الجديدِ قد ذَكَرَت أنَّ هناكَ عددًا من المخاطرَ التي يواجهُها مستخدموا ذلكَ النمطِ الجديدِ من الإعلامِ، والتي من بينِها: مخاطرُ نفسيَّةٌ، مخاطرُ صحيَّةٌ، مخاطرُ تربويَّةٌ، مخاطرُ اجتماعيَّةٌ وثقافيَّةٌ ومخاطرُ تتعلَّقُ بالمحتوى الإعلاميِّ المُقَدَّمِ ذاتِه، والتي لا يتسعُ المقامُ لذكرِهنا.
كما أكَّدَتِ عديدٌ من الدراساتِ والأبحاثِ العلميَّةِ في هذا المجالِ على الضوابط والمعايير والقوانينَ المنظِّمةِ للمما رسةِ الإعلاميَّةِ الرَّقميَّةِ، في ظِلِّ ما يرتبطُ بها من إشكاليَّاتٍ قانونيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ كثيرةٍ، والتي يأتي على رأسِها قضايا نشرِ الأخبارِ الزائفة والترويجُ للشائعاتِ والتضليلُ الإعلاميُّ، وما ترتَّبَ عليها من صعوبةِ التأكدِ من مصداقيَّةِ الأخبار، وبالتالي ضرورةُ ووجوبُ وجودِ دورٍ رقابيٍّ وفعَّالٍ على وسائل الإعلامِ الرَّقميِّ من خلالِ وضعِ معاييرَ وضوابطَ محدَّدَةٍ تنصُّ عليها الجهاتُ والسُلُطَاتُ المسؤولةُ وفقًا لقيمِ كُلِّ مجتمعٍ وثقافتِه وتقاليدِه وأعرافِه؛ لتحقيقِ الانضباطِ القِيَميِّ والأخلاقيِّ؛ مِمَّا ينتجُ عنه عدمُ إساءةِ استغلالِ تقنيَّاتِ التحولِ الرَّقميِّ في بثِّ الشائعاتِ والأكاذيب والتضليلِ الذي ينتجُ عنه تهديدُ الأمنِ القوميِّ للدولِ، ومخالفةُ القيمِ العامَّةِ للمجتمعاتِ والشعوبِ، ولكي يتحقَّقَ للإعلامِ الرَّقميِّ دورُه الفعَّالُ؛ فلابدَ أن تتوافرَ فيه مجموعةٌ من الضوابطَ والمعاييرَ التي يجبُ أن يلتزمَ بها ولا يحيدُ عنها، والتي من بينِها: الدقَّةُ، الموضوعيَّةُ، المصداقيَّةُ، عدمُ التحيزِ.
ويؤكِّدُ الأكادميُّونَ والممارسونَ في مجالِ الإعلامِ أنَّ القضيَّةَ ليستْ قضيَّةَ وضعِ تشريعاتٍ ومواثيقَ وضوابطَ ومعاييرَ بقدرِ كونِها قضيَّةَ التزامٍ بتلكَ الضوابطَ والمعاييرَ وتطبيقِها تطبيقًا مسؤولًا وواعيًا فيما يتمُّ نشرُه من قِبَلِ الممارسينَ والقائمينَ بالاتِّصالِ في وسائلَ الإعلامِ عامَّةٍ، ووسائطَ الإعلامِ الرَّقميِّ خاصَّةٍ، حيثُ ظهرتْ حالةٌ من الفوضى صاحَبَتْ ظهورَ وانتشارَ وسائل الإعلامِ الجديدِ؛ أدَّتْ إلى إحداثِ حالةٍ من عدمِ العشوائيَّةِ في الممارساتِ التي نتجَ عنها في كثيرٍ من الأوقاتِ حالةٌ من البلبلةِ والتضليلِ للرأيِّ العامِّ.
وإذا كان الإعلامُ الرَّقميُّ يثيرُ عديدًا من المشكلاتِ والقضايا والتي يأتي في مُقَدِّمتِها انتهاكُ الخصوصيَّةِ والأمنُ السيبرانيِّ وسرقةُ المليكيَّةِ الفكريَّةِ، إلَّا أنَّ قضيَّةَ (نشر الأخبارِ الزائفةِ) تُمَثِّلُ القضيَّةَ الأكثرَ ارتباطًا والتصاقًا بالأفرادِ والشعوبِ في المجتمعاتِ الناميةِ والمتقدِّمةِ على حَدٍ سواء، خاصةً في أوقاتِ الأزماتِ والصِّراعاتِ، فالقضايا السابقةُ الخاصَّةُ بانتهاكِ خصوصيَّةِ المستخدمينَ والأمنِ السيبرانيِّ وإن كانت قضايا ذاتِ أهميَّةٍ في مجالِ الإعلامِ الرَّقميِّ، إلَّا أنَّ قضيَّةَ (نشر الأخبارِ الزائفة) تمسُّ الدولَ وتطالُ الشعوبَ مساسًا مباشرًا، ويكونُ لها تأثيرٌ سلبيٌّ فوريٌّ وسريعٌ، كما يترتَّبُ عليها نتائجُ خطيرةٌ تمسُّ الفردَ والمجتمعَ على حَدٍ سواء.
وإذا نظرنا نظرةً متأملةً للشريعةِ الإسلاميَّةِ في ذلكَ الصددِ؛ لوجدنا أنَّها قد وضَعَتْ مبادئ وضوابطَ للممارساتِ الإعلاميَّةِ منذُ أكثرِ من ألفِ وأربعمائةِ عامٍ، حيثُ وضعَ القرآنُ الكريمُ دستورًا إلهيًّا، وقانونًا رَبَّانيًّا للمنظومةِ الإعلاميَّةِ، عندَما أرشدنا إلى وجوبِ وضرورةِ (التثبت والتحقق) من الأخبارِ قبلِ نشرِها وإذاعتِها، وعدمِ التسرعِ في الحكمِ على الأحداثِ، فقالَ تعالى: {يَاَ أيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. (الحُجُرات، الآيةُ: 6)، وفي لمحةٍ قرآنيَّةٍ أخرى، تحدَّثَ القرآنُ الكريمُ عن خطورةِ (نشر الشائعاتِ) في المجتمعاتِ؛ لِمَا يترتَّبُ عليها من إحداثِ حالةٍ من التخبطِ والإرجافِ في عقولِ وأفكارِالأفرادِ، ولِمَا ينتجُ عنها من تضليلٍ للرأيِّ العامِّ، ولخطورةِ تلكَ القضيَّةِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، فقد عالجَها القرآنُ الكريمُ علاجًا حاسمًا وحازمًا، في إشارةٍ قرآنيَّةٍ صريحةٍ إلى أنَّ تلكَ القضيَّةَ ستكونَ قضيَّةَ السَّاعةِ وكُلِّ ساعةٍ إلى قيامِ السَّاعةِ، حتَّى في عصرِ العوالم المفتوحةِ والذكاءِ الاصطناعيِّ والميتافيرس، حيثُ قالَ تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤمِنُونَ وَالْمُؤمِنَاتُ بِأَنْفِسِهِم خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}، {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُوهُ هَيِّنًا وَهُو عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}. (النور، الآياتُ: 12، 15،16).
فالإسلامُ إذًا اهتمَّ أيَّمَا اهتمامٍ بالممارسةِ الإعلاميَّةِ، وبوضعِ الإطارِ التشريعيِّ ومواثيقَ العملِ التي تنظِّمُ تلكَ الممارسةَ تنظيمًا مسؤولًا وواعيًا لدى القائمِ بالاتِّصالِ، بما يضمنُ حَقَّ الأفرادِ في الحصولِ على الأخبارِ والمعلوماتِ بصورةٍ موضوعيَّةٍ ودقيقةٍ ومحايدةٍ، وبما يضمنُ للوسيلةِ الإعلاميَّةِ ممارسةَ العملِ بصورةٍ أكثرَ دقَّةً وتنظيمًا، بحيثُ تكونُ مسؤولةً مسؤوليَّةً كاملةً عَن ممارساتِها الإعلاميَّةِ أمامَ المجتمعِ، بحيثُ تؤدِّي دورَها وتحققُ وظيفتَها وتصلُ إلى أهدافِها في ضَوءِ الدستورِ القرآنيِّ وفي ظِلالِ الهَديِّ النبويِّ، وإن كانَ ما يحدثُ على أرضِ الواقعِ مخالفًا لذلكَ؛ فإنَّ تلكَ المخالفةَ ناتجةٌ عن عدمِ الالتزامِ بما شَرَّعه الحَقُّ ـ تبارك وتعالى ـ من ضوابطَ ومواثيقَ للعملِ الإعلاميِّ من المفترضِ أن يلتزمَ بها القائمُ بالاتِّصالِ في ممارساتِه الإعلاميَّةِ!!.