بقلم ✍️ د. هويدا مروان
( دكتوراة أصول التربية ـ كلية التربية جامعة عين شمس)
من فضل الله علينا وعطاياه التي لا تنقطعُ أنَّه بين كلِّ حقبةٍ زمنيَّة وأخرى يرسل لنا من عباده من يأخذ بأيدينا إلى التقدم، ويمحو من عقولنا غبار التخلف والركود. والحقيقة أنَّ ذلك ثابت في عقيدتنا إيمانًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم– “يبعث الله على رأس كلِّ مائة عام من يجدد لهذه الأمَّة أمر دينها” فلكلِّ حقبةٍ زمنية فرسانها الذين يُسخِّرون ما أنعم الله عليهم من صفاء القلب والعقل لخدمة أوطانهم ومعالجة جراحه بوصف العلاج الشافي للتخلص من أمراضه وآلامه. وفارس هذا العصر هو حامد عمار.
يعدُّ حامد عمار واحدا من القادة الأكاديميين، وواحدا من المتخصصين في التربية في الوطن العربي، فهو الخبير الدولي الرائد في التنمية البشريّة كان ذا نظرة استشرافيَّة لمستقبل التربية وقد تجاوز النظرة النقدية إلى اقتراح رؤى جديدة للتربية العربية.
ولا غرابة أبدًا في أن يلقب حامد عمار “رحمة الله” منذ كان في عمر الشباب بشيخ التربويين العرب تقديرا له على ما قدَّمه من عطاءات فكريَّة كبيرة في مصر والعالم العربي، وليس من العجب أن تؤخذ صورة هذا الرجل عنوانا للفكر التربوي العربي بطابعه الإنساني والأخلاقي.
لقد كان للبيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأ فيها حامد عمار أثرا واضحا في تكوين شخصيته يقول عن تأثير نشأته الريفيَّة أثناء حديثه عن الطريقة التي بنى بها منزله بعد عودته من لبنان “ويبدو أن نشأتي الريفية قد جعلتني أعني بما يحيط بالمبنى من حديقة، وكنت دائمًا أتصور أن العناية بالزرع كالعناية بتربية النَّشء، فحين تبذر البذور، وتغرس الأشجار، وتغذيها بالماء والسماد والتقليم تأخذ في النمو، وتصيبها الآفات فترشها بالمبيد مما يحاول الاعتداء عليها من الحشرات. كذلك شأن النمو في التعليم”.
وعن مسألة التجديد التربوى يرى حامد عمار أن التجديد لا يحدث تلقائيّا سواء في السياق المجتمعي العام أو في أي منظومة من منظوماته طالما توافر نوع من التوازن النسبي في حركة المكونات والعلاقات والقيم التي تحكم واقع المؤسسة، فالتجديد لا يبدأ مساره إلا من خلال مثيرات ومؤثِّرات تُحدث خللًا في هذا التوازن النسبي، بمعنى أنه كي يحدث التجديد لابد من ظهور عوامل تستدعي الطلب على التعديل والتغيير في هذا التوازن النسبي.
وقد يتحرك الطلب من داخل المنظومة التعليميَّة الثقافيَّة نتيجة شعور المسؤولين عنها بأنها لا تؤدي وظيفتها العلميَّة والفنيَّة والثقافيَّة بالدرجة المطلوبة من الفاعليَّة والكفاية والإنتاجيَّة المثلى في مخرجاتها الحالية.
ويشير حامد عمار إلى أنه قد تحدث عوامل ومثيرات ومتغيرات من خارج المنظومة ذاتها من خلال السياق المجتمعي العام وما يحدث فيه من تحديَّات سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعية، وفي مواجهة هذه التغيرات وما تفرضه من ضغوط على المنظمة التعليميَّة والثقافيَّة يأتي التجديد الذي لا يعني فقط التجويد والكفاية في المخرجات؛ إنما يسعى إلى تغيير نوعية المدخلات والمخرجات وما بينهما من عمليات وتنظيمات.
وقد لفت حامد عمار الانتباه إلى وجود مجموعة من الإشكاليات المجتمعيَّة التي ينبغي أن يأخذها التجديد التربوي في الاعتبار ومنها:
– الطاقات الكامنة والطاقات المهدرة: من المصارحة في تشخيص واقعنا المجتمعي أن ندرك أننا نعاني حالة من التخلف فيما يخصُّ التعامل مع الإمكانات والطاقات بمعنى أن الوطن العربي غنيٌّ بإمكاناته وموارده الكامنة التي لم تتحول إلى قوة محركة، وقد تخلفنا في وعينا بها وتوظيفها.
– التناقض بين التماسك الاجتماعي والتضامن العربي وبين التخلخل الفئوي والتنافر العربي: فقد تعرضت المجتمعات العربيَّة للتناقض في المصالح مما أدى إلى ضعف مقومات التماسك العربي والذي اتخذ صور التنازع الطائفي أو المذهبي أو السياسي، مما أدى في النهاية إلى زعزعة مقومات الوحدة الوطنية، واحتدم الصراع بين المحلية والعربيَّة مما أهدر الإمكانات.
– الثقافة المشتركة والاستقطاب الفكري: وهو ما عرف بإشكالية الأصالة والمعاصرة.
– العالميَّة أو الكوكبيَّة وما تحمله من أدوات للهيمنة الجديدة، وقائمة الرسائل المحطِّمة للثقة بالنفس.
ويرى حامد عمار أن نظم التعليم لابد أن تتعامل مع تلك الإشكاليات، ويكون التجديد التربوي مركَّزًا في مقاصده وحركته ليسهمَ إسهامًا فاعلًا في تنمية الطاقات البشريَّة الكامنة والمهدرة والمهمَّشة. وقد قدم حامد عمار من خلال كتاباته ومشاركته الفعالة في المؤتمرات والندوات التي تبحث مشكلات العملية التعليميَّة العديد من الإقتراحات والرؤى في مجال التجديد التربوي، فقد كان مؤمنًا بأن التنمية المنشودة تتطلب قوة متعلمة ومتدرّبة وقادرة بكمِّها وكيفها على تحمل أعباء التنمية، والتي تقع المعرفة والتكنولوجيا في القلب من مدخلاتها ومخرجاتها. ويستلزم تكوين رأس المال البشري المطلوب تنمية كمية وكيفية، وهذه التنمية تقوم على خمسة أبعاد في عمليات تخطيط تعليم المستقبل وهي:
– البعد الأفقي: ويقصد به إتاحة فرص التعليم للجميع، سواء من الكبار والصغار، أينما كان موقعهم الجغرافي، وبغضِّ النظر عن المكانة الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة لأسرهم.
– البعد الرأسي: ويقصد به مدى إتاحة فرص التعليم إلى أطول عدد ممكن من السنوات من خلال زيادة مدَّة التعليم الأساسي حتى تمتد إلى المرحلة الثانوية.
– بُعد العمق: يمثل هذا البعد نوعية التعليم ومضمونه، وطرائق تعليمه وتعلمه، وتجويده، وفاعليته، وارتباطه بمتغيرات العمل والإنتاج، وبما يوفر مجالات النمو المتكامل في تكوين المتعلم من خلال تجديد مضامين المناهج، وأساليب تعلمها، وبما يحفِّز على التميز للجميع من خلال إنضاج قدراتهم وطاقاتهم إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه، ويدخل تحت هذا البعد تأسيس مهارات التعلم الذاتي ودوافعه، لتكون رافدًا متَّصِلًا في تجديد الذات، وتنمية رأس المال المعرفي لكل مواطن، وتهيئته لدخول سوق العمل.
– البعد الاجتماعي والثقافي: وهو متصل ببنية المجتمع، وأنماط تفكيره السائدة وقيمه الثقافيَّة والتعبيريَّة.
ويشير حامد عمار إلى ضرورة تحديد الأهداف الكمية، واعتبار الاهتمام بمؤشراتها من أهمِّ الأسس في عملية التخطيط، وإلا انعدمت بوصلة المتابعة والتقويم لما يتم إنجازه والمحاسبة عليه، كما يحذر من المناظرة بين الاهتمام بالكمِّ والكيف؛ لأنَّ كلاهما شرط هام لتطوير التعليم يسهم بكفاءة في مسيرة التنمية الشاملة.
وفيما يخصُّ تجديد المضمون ومناهج التفكير قدَّم حامد عمار مجموعة من الرؤى التي تسهم بشكل فعال في التنمية الكلية لقدرات الإنسان من خلال تجديد المنهج المدرسي، وهو بعد كيفي يشمل خمسة عناصر متشابكة هي: الشمول المعرفي، الوعي بالمفاهيم الأساسية للمنظومات المعرفية، التعلم عن طريق تكنولوجيا التعليم، وممارسة البحث العلمي.
وفي مجال السياسة التعليمية نادى حامد عمار بضرورة الاهتمام ببرامج التنمية الإدارية؛ فهي لا تقلُّ أهمية عن التنمية المهنيَّة للمعلمين وهيئات التدريس، فالإدارة لم تعد مجرد خبرة تتراكم على مر الأيام؛ لكنها نشاط له أسسه الفنية والعلمية في تنظيم العمل، واستخدام الموارد، وتنظيم العلاقات، وإدارة الوقت، والدِّراية بأسس التخطيط والمتابعة والتقويم ومن ثمَّ “فإن النمط الإداري المطلوب لتطوير التعليم وكفاءته وفاعليته في التنمية البشريَّة يتطلب الاهتمام ببرامج التدريب المتنوعة، بحيث تخطط وتنفذ بطريقة فعَّالة في مضامينها وأساليبها، لا أن تتم بطريقة بيروقراطية شكلية لمجرد ممارسة روتينية مألوفة”.
ويشير حامد عمار إلى أهمية البعد الاجتماعي و الثقافي في عملية التجديد التربوي، حيث يمثل هذا البعد أساسًا هامًّا لعملية التنمية ومتطلباتها من الاستقرار السياسي، فينادي بضرورة إرساء مبدإ تكافؤ الفرص التعليميَّة، وعدم التعلل بالإمكانات الاقتصاديَّة، وبجانب حق التعليم يأتي أيضًا حق العمل. ويبرر ذلك بأنه إذا كانت فرص التعليم من المكونات الجوهرية في التنمية البشريَّة، فإن تلك التنمية لا تكتمل حلقاتها إلا من خلال حقِّ العمل والتوظيف الأمثل لقدرات المتعلم؛ حتى لا يضيع الاستثمار فيها، ومن ثمَّ يصبح حقُّ التعليم وحقُّ العمل والكسب المجزي مع التأمين على هذه الحقوق حاضرا ومستقبلا قاعدة راسخة لانتماء المواطن وكفاءته الإنتاجية، ولأمن المواطن والوطن. أما في المجال الثقافي، ومع مخاطر العولمة على الهُويَّة الثقافيَّة وإثارة إشكاليَّة التراثيَّة والحداثة يرى حامد عمار أنه لابد من إدراك أن لكل ثقافة ثوابتها الروحيَّة من الإيمان والشرائع والقيم الدينية، كما أن لها ثوابت تحرص عليها في تنظيم المجتمع وعلاقات مواطنيه. وبالتالي لابد من التوظيف الإيجابي الفعال في الفكر والسلوك اليومي والعلاقات الاجتماعيَّة. وبدلًا من الصراع بين فريق التراثيَّة وفريق الحداثة لابد من السعي إلى الوصول إلى حالة من الوفاق وترسيخ رأي عام ورؤى مشتركة تجاه توجهات العمل الوطني، ومبادئه، وأساليبه في إطار من ثقافة الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان وذلك لمواجهة تحديات التنمية والعولمة.
ولعل أبرز ما قدمه حامد عمار في مجال التجديد التربوي كان مشروع الشجرة التعليميَّة بديلًا عن السلم التعليمي، وهو أول من استخدم هذا التعبير مما يدل على أنه كان مفكرًا تربويًّا تتسم أفكاره بالإبداع والتجديد، وينتمي بحقٍّ إلى المدرسة النقديَّة قولًا وفعلًا، وفيما يلي عرض لمكونات الشجرة كما أطلق عليها.
الغرض من الشجرة التعليميّة هو التوسع والمرونة في إتاحة فرص التعليم، وهو يصف الشجرة بأنها: “كائن حي نامٍ، له جذوره الممتدة، والقابلة للامتداد، لها جذع أساسي كبير الحجم، طويل المدى، قوي متماسك، ينطلق من الجذور، وللجذع فروع رئيسية، تتشعب منها أغصان وفروع متعددة ومتجددة باستمرار دائمة الخضرة، ومن هذه الفروع تبرز الثمار وتنضج، ويتم قطافها كل عام، ويتوقف ما تجود به من ثمار على رعايتها طوال العام من ريٍّ وتسميد ومكافحة للآفات”.
ويقصد حامد عمار بجذر الشجرة الثقافة الوطنيَّة، أما ساقها فهو مراحل التعليم الأساسي التي يتسلَّق عليها جميع المتعلمين حتى نهايته دون استبعاد لأي منهم بسبب تجاوزه سنًّا معينة، أو لتعسره في مادة معينة، بل من الممكن أن يترك المتعلم الدراسة فترة من الزمن ثم يعود مرة أخرى، ويحدث ذلك في أي مرحلة سواء التعليم الثانوي أو الجامعي.
أما الفروع والأغصان المتعددة والمتجددة دائمة الخضرة يقصد بها تعدد التخصصات وتنوعها والعمل على تطويرها وتجديدها باستمرار بما تقدمه من مناهج متطورة ومتجددة، وفي إتاحة الفرص للراغبين في التعلم بعد فترة من الانقطاع. ولكن تقترن العودة إلى الشجرة بعد الانقطاع عنها بالاختبارات المناسبة، كما يقترن الصعود من غصن إلى غصن على جذعها وأغصانها بالاختبارات المناسبة، وبهذه المرونة يتم التحلل من كثير من الشروط البيروقراطيَّة التي تحكم الحركة في السُّلَّم التعليمي مثل: السن، ومرات الرسوب، وبقاء الطالب في تخصص غير راغب فيه، كما أن عملية القفز المتاحة في الشجرة تسمح للموهوبين بعدم الالتزام بترتيب سنوات التدرج، فهي تسمح لهم بالقفز أو الطيران من فرع إلى فرع، وبالتالي تتيح الشجرة قدرًا كبيرًا من المرونة تتحدد فيه فرص التعليم بقدرات الطالب، وليس بعمره، وبرغباته لا بالقوانين واللوائح الجامدة. كما أن هذا التعدد والتنوع في التخصصات، يسهِّل التنقل بين فروعها من التعليم النظري إلى الفني، والعكس، ومن تخصص إلى تخصص، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن جامعة إلى جامعة.
تلك هي الشجرة التعليميّة التي وضعها حامد عمار كبديل للسُّلَّم التعليمي بجموده ومعوِّقاته، ونتساءل مع حامد عمار عن إمكانية اعتماد الشجرة التعليميَّة بديلًا عن السُّلَّم التعليمي، وعن عشرات المعوِّقات التي تفرضها اللوائح وقوانين التعلم ما قبل الجامعي وقوانين وشروط المجلس الأعلى للجامعات ولجان القطاعات ومجموعة اللوائح التنفيذيَّة للكليات.
كان حامد عمار يطرح رؤيته الإصلاحية لكل ما تعانيه المنظومة التعليميَّة من مشكلات ، ويعالج كل القضايا بنظرة نقديَّة نابعة من إيمانه العميق بأنَّ المنهج النقدي هو أنسب المناهج لعلاج تلك المشكلات؛ لأنَّه يبحث عن أصولها وتشابك كل العوامل المجتمعيَّة في إحداث المشكلة وكذلك في علاجها، آمن بأن الحُريَّة والديمقراطيَّة والعدالة الاجتماعيَّة وإرساء مبدإ تكافؤ الفرص هي أهمُّ الأسس لانطلاق الفكر المبدع الذي من خلاله ومن خلال النظرة الناقدة نستطيع مواجهة العولمة، ونستطيع الحفاظ على هويتنا. آمن كذلك بأهمية التربية الكلية في بناء البشر الذي أكد على أنه أهمُّ من بناء الحجر، وأن الإنسان الجزئي الذي تعلم من خلال منهج معرفي جزئي لن يستطيع الصمود أمام تيارات الحداثة وما بعدها. كما دعا إلى التجديد التربوي الذي بدوره هو أحد أوجه الإبداع، ولذلك استحق أن يوصف حامد عمار بالمفكِّر المُبدع وبالمُجدد الكبير، وليس من قبيل المبالغة وصفُ ما قدمه حامد عمار من فكر تربوي مبدع بأنَّه يصلح لأن يكون أول نظريَّة نقديَّة عربيَّة في التربية..
سلاما إلى روحه الطاهرة فى ذكرى رحيله 9/ديسمبر 2014.